بين أحلام التغيير وأوهامه
قبل حوالي اثني عشر شهراً بدأت الأزمة في اليمن تشتد وتأخذ منحى آخر،
في مثل هذا اليوم بالتحديد، عندما شاهد اليمنيون كغيرهم من البشر، شاهدوا تنحي
الرئيس المصري عن منصبه بعد أيام فقط من بدء الاحتجاجات، بعد هذا اليوم بالذات
ترآي لليمنيين حلم التغيير، ومثل إسقاط مبارك حافزاً لا يمكن إهماله. حينها فقط لم تكن المعارضة مستعدة بعد، بل إنها
لم تكن تعتقد بإمكانية تكرار المشهد المصري، والدليل على ذلك ما منيت به من فشل في
دعوتها للتظاهر التي لم تلق التجاوب المأمول، واستمرت لأسابيع طوال تماطل، تارة
تتحاور مع النظام الحاكم، وتارة لا تبدي موقفاً واضحاً.
مرت الأيام وتحولت الاحتجاجات البسيطة التي قام بها طلاب جامعة صنعاء
إلى بذرة أستثمرتها قوى المعارضة بسرعة، ولم يتمكن النظام الحاكم في اليمن من
مقاومة المد، المد الذي تمثل في تعاطف شعبي عارم، ورغبة في التغيير. هو حلم طالما راود كل يمني، حلم بمستقبل يتخلص
فيه اليمني من أوحال علقت به فلم يعد يستطيع التقدم. الفساد لوث مناحي الحياة، بدءاً من السياسة
وأربابها، وانتهاء بالمواطن العادي الذي استمرأ الفساد فصار سلوكاً يومياً ومرضاً
عضالاً. أنقلبت أسس الحياة رأساً على عقب،
تبدلت القيم وتغيرت، وسيطرت نزعة المصلحة على كل ما يحيط بالإنسان، أصبحت المثل
نكتة يتغنى بها الجميع، والنزاهة طيفاً من الأحلام. أصبح اللص شجاعاً، والمرتشي جرئياً، والمعتدي
مقداماً، وأصبح الأمين جباناً، والصادق رعديداً، والعادل لا يتماشى مع العصر.
إمتلأت أفواه اليمنيين بالقات، والأغلبية تعافه وتلعنه، وتنافسوا على
كل شيء، وتحولت علاقات الناس إلى ضرب من النفاق الإجتماعي تغلب عليه المصلحة،
وتنازع الأقارب والأباعد على المصالح والمال، ولم يترك أحدهم وسيلة من وسائل الكذب
والتدليس إلا استخدمها لينتزع مصلحته سواء بحق أو بغير حق من أخيه.
اصبحت الثروة هي كل ما يهم، فتهافت الناس على الأراضي، واستخدموا كل
وسيلة للكسب، أنشأوا المشاريع والمؤسسات والشركات، ولم تسلم الجمعيات والمنظمات
الخيرية التي تدر ذهباً على أصحابها، وأصبح كل شيء للبيع، كل شيء.
جاءت الموجة عاصفة، وجاء كل بحلمه، في مستقبل "أنظف"، وتصور
الكثيرون أن هذا المد لا يمكن أن ينكسر، وكانت ذكرى مشاهد مصر حاضرة، وتحولت
الاحتجاجات إلى مهرجان كبير، مهرجان للإبداع أستطاع فيه الكثيرون من التعبير عن
أنفسهم، وكادت تتحول لتسونامي يقضي على أدران وأوحال علقت على مدى سنون وعقود، بل
وقرون بالمجتمع اليمني، ولكن هيهات.
سرعان ما استفاقت القوى التي رأت في هذا المد هلاكاً محدقاً، وتحركت
بكل قوتها، تحركت لحماية نفسها، ركبت الموجة، أثقلتها، وأوجدت لنفسها موطئاً
ومكاناً داخلها، ولم يستطع أحد منع هذه القوى وهي تدعي "دعمها" للتغيير،
وهي لا تريد سوى حماية نفسها، وسرعان ما تحولت تلك القوى لموجة مضادة كسرت تلك
الموجة قبل أن تصل لهدفها.
أصبح التغيير مرهوناً إذن بهؤلاء دون غيرهم، وأصبح اليمنيون كالمستجير
من الرمضاء بالنار، ولكن الوقت كان قد أزف ولم يعد لدى اليمنيين خيار سوى السير
لآخر الطريق. التغيير لم يعد سوى حالة من
العناد لا بد من السير فيها، ونتائجه لم تعد تعني شيئاً للكثيرين، فذلك الزخم
إنتهى، وتلك الأسس النبيلة التي بني عليها لم تعد سوى طرفة مضحكة مبكية بعد أن
أثبتت الأحداث أن القادمين على تلك الموجة، والذين هم أساس الداء قد تحولوا إلى
دواء.
التغيير تحول إلى وهم كبير بعد أن تم تقسيم الكعكة من جديد، وبعد أن
تغيرت بعض الوجوه. ذهبت أحلام التغيير
التي أتت في لحظة تاريخية قد لا تعود لعقود، كلها ذهبت أدراج الرياح، ورجع
اليمنيون لبيوتهم يندبون حظهم العاثر، ويتمنون فقط أن يعودوا لسنوات
"عجاف" مضت، ينعمون فيها بأحلام قد تتحقق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق