ثمان سنوات كاملة مرت منذ بدء أحداث الربيع العربي الشهيرة، أحداث بدأت في تونس وانتشرت
كالنار في الهشيم لتشمل مصر وليبيا واليمن وسوريا، إضافة لبعض الدول التي
تمكنت من السيطرة عليها كالأردن والمغرب وعمان والبحرين. يأتي فبراير لينكأ جراحاً
في قلوب الجماهير في معظم الدول العربية التي ركبتها تلك الموجة، ويشترك المؤيدون
والمعارضون على حد سواء في هذه استجرار هذه الآلام، وإن حاول البعض أن يظهر أحتفاءه بالمناسبة فالواقع يقول أن هذا الاحتفاء ليس إلا من قبيل المكابرة. المؤيدون للربيع العربي من الشباب والعامة ممن حملوا أحلاماً بريئة وأملوا بإيجاد نظم حكم أكثر عدالة، سرعان ما وجدوا كل أحلامهم سراباً، أما المؤيدين ممن وجدوها فرصة للوصول للسلطة فلم يحققوا مرادهم أيضاً، باستثناءات محدودة. في المقابل نجد المعارضين للربيع الذين فقدوا ما بأيديهم، وخسروا كل شيء.
كان الربيع موسماً ازدهرت فيه الآمال، آمال
العرب جميعاً، بل وربما آمال العالم المحب ايضاً. كان ربيعاً مبهراً، انبعثت
فيه الحياة ببراعم بدت قوية، وازهار تتبختر بألوانها الزاهية، كان انبعاثاً ربيعياً
بحرارة الصيف وقوته، وكأن الأرض قررت فجأة أن تجود بأسباب قوة اضافية، خلاف
ما تفعله عادة، وكأن الكون قد أدخر لهذا الموسم منذ زمن طويل هذه الطاقة الجبارة.
بدت حركة الشعوب تلقائية، وكانت المطالب بسيطة، ولا تتعدى أحلام البسطاء،
التخلص من الفساد والالتزام بالقانون كطريق لرفض التسلط وتحقيق العدالة. لكن شعار "الشعب
يريد اسقاط النظام" كان أكثر من ان يكون بسيطاً. وظهرت عناصر تقود الجماهير
التي كانت تطير بأحلامها. ولم يكن ظهورها تلقائياً، ولا من قبيل الصدفة. تلك
القيادات أتت من رحم معارضة الأنظمة وكانت الأكثر تنظيماً، وقد استغلت الظرف وركبت الموجه، لتصبح
بسرعة موجهة السفينة وسيدة البحر الهائج. كانت قدرة تلك القيادات هائلة على استقطاب الجماهير
من حولها، ولكن لم يكن لديها من الخبرة ما يمكنها من قيادة السفينة لبر الأمان. وسرعان
ما أنكشف امرها، وظهر عجزها عن مواجهة الواقع. لكن ذلك لم يثنيها، فلم تشأ أن
تعترف بخطئها، ولا كانت مستعدة للتنازل عما حققته من مكاسب. وكأن عدوى "النظام" المنقلب عليه قد اصابها. ولم يكن لدى الجماهير التي لم تكن
تطالب إلا بشيء من العدالة، إلا السير وراء تلك القيادات.
زخم انتفاضات الربيع العربي كان قصيراً، لعله كان متأثراً
بإسمه كموسم قصير، فقد استمرت المظاهرات والاعتصامات لأيام قليلة، جرى خلالها وضع تسويات في
بعض الدول مثل تونس ومصر واليمن، بينما
اجتاح العنف دولاً أخرى. في تلك التسويات السياسية تمكنت جماعات الاسلام السياسي
من الوصول للحكم، وانحسرت موجة الاحتجاجات برغم اصرار بعض الشباب الذين لم يكونوا
ضمن صفقات التسوية على استمرارها. واستمر بالطبع الصراع السياسي، ولم تتمكن جماعات
الاسلام السياسي، التي ورثت الحكم، من الحفاظ على مكاسبها، فتراجعت الجماعة في تونس ونجحت في الحفاظ
على الحد الادنى من مكاسبها، والمحافظة على البلاد من الانجرار للفوضى، أما في مصر
فلم تتمكن الجماعة من استثمار انتصاراتها المتكررة، ولم تكن مستعدة للتخلي عن مكسب
واحد، لتجد نفسها وقد خسرت كل شيء، بل ودفعت البلد دون وعي لعقود من الزمن إلى الوراء. أما
في اليمن فقد تمكن تحالف جماعتي الاسلام السياسي الرئيسيتين، الأصلاح والحوثيين،
وبرغم وقوفهما على طرفي نقيض، تمكنتا من تقويض سيطرة نظام الرئيس صالح وحزبه على
الحكم، لكن لم يكن لديهما، كما يبدو، خطة للاشتراك في حكم البلاد بعد صالح، فبدأت
الحرب بين الحليفين اللدودين بمجرد توقيع التسوية السياسية، ليتمكن الحوثيون
بعدها من خداع الجميع والاستئثار بالحكم، ويصيبهم داء السلطة فيدفعوا بالبلد إلى حرب
متعددة الأطراف والأهداف، ويحولوها إلى ساحة صراع مفتوح بلا أفق لنهايته.
في سوريا وليبيا لم يكن متوقعاً أن تنجح أي
احتجاجات شعبية، فأنظمتهما لم يكونا ليسمحا بتوسع تلك الاحتجاجات، ولما يتمتع به
البلدان من اهمية كبيرة فقد تدخلت أطراف دولية وقدمت الدعم بكافة صوره للجماعات
المعارضة، ليتوسع الصراع ويتحول البلدان إلى ساحتي حرب تقودهما مصالح وتجاذبات
دولية لا يبدو لها نهاية.
ثمان سنوات مرت ولا تزال الدول الربيعية تمر في نفق مظلم، لا يبدو في أفقه
من ضوء. فقد انحسرت فيها آمال الجماهير العربية، وتبخرت أحلامها، وتحولت
الشعوب الثائرة إلى شعوب منكسرة مقهورة ومغلوبة في أحسن الأحوال، وفقيرة جائعة
يائسة وبائسة في أسوأها. تحولت أحلام الربيع العربي إلى كوابيس خريف تتساقط فيه
أوراق الحياة في اليمن وسوريا وليبيا، بينما تكاد في مصر وتونس. ثمان سنوات قوضت الاسس التكوينية للبلدان العربية، وأخرجت نار التطرف والأختلاف من بين الرماد. نار أحرقت عشرات الآلاف من البشر، وأصاب أوارها عشرات الملايين.
لعل أكثر ما يحبط الانسان العربي ليس فشل الجماهير في إحداث التغيير
المنشود فحسب، بل انسداد الأفق. لقد أضحت الجماهير أكثر عجزاً اليوم مما كانت عليه قبل ثمان سنوات، فهي تستكين لجماعات دينية متطرفة وأنظمة أكثر ظلماً وقمعية. إذن فنتائج أحداث
العام 2011 الربيعية وما تبعها سلبية، ولا يمكننا تبرير الفشل الحالي بأماني التغيير
المستقبلي، ولا الادعاء أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان. إن خريف العدم الذي يعيشه
الفرد العربي وتعيشه الجماهير العربية كارثي بكل المقاييس، وسيذكرها التاريخ كفترة
ضعف وتراجع.
في ظل هذه الاوضاع يستمر التجاذب بين مبرر لانتفاضات الربيع، بصفتها ثورات
شعبية مبرره ستؤتي أوكلها لا محالة، وبين من يعتبرها حركة تخريبية أنتجت معاناة
يمر بها ما لا يقل عن 145 مليون انسان عربي (أكثر من 42% من سكان الدول العربية).
لعل أهم ما يرتبط بمفهوم الثورة، بغض النظر عن التعريف الأكاديمي لها وعن الشكليات
المتعلقة بالأنظمة أو الدساتير، هو وجود تغيير اجتماعي ايجابي. السؤال الذي لا يزال مطروحاً، هل هناك من تغيير، او يلوح في
الافق أي تغيير اجتماعي ناتج عن أحداث الربيع
إذا كان هناك من عبره نأخذها من "تجربة الربيع العربي"، أن صح التعبير، فهي أنه ما لم يكن لدى الفرد العربي من القيم والمبادئ ما يخلق في قلبه الرغبة في تغيير واقعه نحو الأفضل، والقدرة على السير نحو هدفه وحماية مستقبله، فإن تغيير الأطر لن يحقق شيئاً، بل سيجلب المزيد من الأوجاع. أن فشل الجماهير مهما كانت أهدافها نبيلة ومبررة، وهي كذلك، ليس إلا تعبيراً عن فشل نخب المجتمع وقادته، وبدونهم لا جدوى من حركة الجماهير. إن ذلك بالتالي تعبير عن فشل الفرد العربي الذي هو اساس التغيير، فربيع الفرد يجب أن يسبق ربيع الجماعة.
إذا كان هناك من عبره نأخذها من "تجربة الربيع العربي"، أن صح التعبير، فهي أنه ما لم يكن لدى الفرد العربي من القيم والمبادئ ما يخلق في قلبه الرغبة في تغيير واقعه نحو الأفضل، والقدرة على السير نحو هدفه وحماية مستقبله، فإن تغيير الأطر لن يحقق شيئاً، بل سيجلب المزيد من الأوجاع. أن فشل الجماهير مهما كانت أهدافها نبيلة ومبررة، وهي كذلك، ليس إلا تعبيراً عن فشل نخب المجتمع وقادته، وبدونهم لا جدوى من حركة الجماهير. إن ذلك بالتالي تعبير عن فشل الفرد العربي الذي هو اساس التغيير، فربيع الفرد يجب أن يسبق ربيع الجماعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق