خواطر العيد
بالأمس كان السفر في فترة العيد ترفاً، وكان الأختيار ما بين المكوث في صنعاء بين الأهل وبين ترك كل ذلك من أجل قضاء بعض الوقت على الشاطئ أو للتعرف على مناطق جديدة، كان ذلك الأختيار صعباً، خاصة في شهر رمضان حيث يكون معظم الأهل في صنعاء.
أما اليوم فإن المكوث في صنعاء لم يصبح خياراً، فصنعاء تخنقها الشائعات، ويقض مضجع سكانها إنتظار، فمنهم من ينتظر أن "يرحل نظام" ومنهم من ينتظر عودة الرئيس، وبين هذا وذاك منهم من ينتظر النهاية فقد تحولت حياتنا إلى "مسلسل مكسيكي" طويل له بداية وليس له نهاية، كما وصفها أحدهم.
بالأمس كان السفر براً، وكان الأختيار يعتمد على الجو، والرغبة في التعرف، توفر الفنادق والمرافق، وكان البحر دوماً يغلب على خياراتنا. بالأمس كان قرار السفر يتم ليلاً ولا يبقى الكثير للتفكير فيه. بالأمس كان السفر يغطي مناطق متعددة، من الحديدة، إلى المخا وتعز والعدين، وإب وذمار، كان إلى تعز وعدن وإب و... أينما شئت.
أما اليوم فإين تتجه، هل إلى الشرق حيث قطاع الطرق، أم إلى الجنوب حيث لا طريق تأمنه، هل إلى الغرب حيث القلاقل، أم إلى الشمال؟ اليوم لا بد أن تأخذ حذرك، ويجب أن تحسب حساب كل خطوة، فإن أطمأنيت فلا بد أن تأخذ في الحسبان إحتمال تعطلك بسبب عدم توفر الوقود أو بسبب إغلاق الطريق من قبل الشيخ فلان أوعلان..
بالأمس كان السفر متعة تنغصة، أو قل تزين جماله الطرق التي تفتقر للصيانة والإرشادات، وأحيانا المطبات والحفر، واليوم لم نعد نعير تلك الأمور بالاً...... بالأمس كنا أثناء تنقلات العيد ننتبه للمطب والحفرة، نأسف لعدم وجود لوحة ترشد لأتجاه الطريق أو إسم المنطقة التي نعبرها، ونتمنى ألا نرى المخلفات البلاستيكية التي تغطي الأشجار وكأنها تخنقها. كان يؤلمنا عدم الإهتمام بوضع اللوحات الإرشادية حول الطرق التي يتم توسيعها أو صيانتها، وكنا كثيراً ما نرى ضحايا الحوادث الناتجة عن ذلك.....
في عيدنا هذا كان السفر جواً، إضطراراً لا رغبة، أصبح السفر براً ضرباً من الجنون والمغامرة التي قد تتحملها أنت، لكنك لا تريد أن تحملها أطفالاً لا يعوا من الدنيا كثيراً. مسافرون على الطريق يتعرضون لمخاطر كثيرة، في زمن قررت الحكومة فيه تجنب الصدام، متخلية بذلك عن أحد أهم وظائفها في حفظ الأمن. قبائل ورجال تخلوا بدورهم عن أبسط الأخلاقيات فأصبحت كمسافر رهناً ل"مزاج" لا تأمن تقبله، ولأعتبارات قد لا تفهما. فنوع السيارة قد يؤثر في قرارهم الإعتداء عليك، مثلما قد يؤثر على ذلك ربما إتجاهك السياسي أو ربما قناعاتك الدينية أو غيرها.....
المكلا
ووصلنا إلى المكلا، بعيداً عن مركز الأحداث في صنعاء. لم تكن السعيدة في مستوى النظافة المرجو، لعله يوم العيد!.... وصلنا والجو فيها ليس حاراً كما عهدناه، سعدنا أخيراً بهدؤ افتقدناه في صنعاء، حتى نقاط التفتيش التي واجهناها في رحلتنا إلى المدينة كانت خالية، فيبدو أن العيد قد قلل من حدة التوتر هنا...
استقبلنا البحر بالترحاب، وقضينا ساعات، بعيداً عن كل شيء، وكنا على موعد مع وسط المدينة، وبالتحديد بقرب البحر حيث نصبت بضع خيام، بدت خاوية.. وهذه "ساحة التغيير".... قيل أنها كانت تزخر بالمزيد من الناس فيما مضى أما الآن فقد فرغت، وقبل أن ندخل إلى تلك المنطقة قيل لنا أن الشارع الذي عبرناه كان قد فتح منذ عدة أيام بعد أن أحتلته جماعة من "الحراك الجنوبي".... المدينة هادئة لا جنود ولا سلاح... برغم كل شيء شعرنا بالارتياح.....
الحياة تسير بشكل "طبيعي" في المكلا. الناس يتجولون، وبأستثناء بعض نقاط التفتيش على الأطراف فإن المدينة تكاد لا تختلف عما عرفناها سابقاً. المكلا تعيش زمناً جميلاً، حيث يبدو أن الحياة فيها تزدهر، البناء في كل زاوية، والأحياء تشهد تطوراً..... وكأن أبناء المكلا قرروا أن يعيشوا حياتهم بعيداً عن تعقيدات "صنعاء"...
شواطئ المكلا الساحرة ظلت تجذبنا، مثلما تجذب أهل المكلا لأيام. رمال ذهبية ومياه تخفف من حرارة الشمس، وأمواج تزيد من متعة مرتادي البحر.
سيئون من جديد
رحلة استمرت عدة ساعات، تبدأ بارتياد الهضبة المجاورة للمكلا، وهو أمر لا يخلو من متعة النظر إلى طبيعة مختلفة، تكوينات رسوبية مميزة وجبال جرداء، وكان من حظنا وجود تجمعات للمياه حيث هطلت الأمطار قبل أيام قلائل، وقد عجبنا من تكوين الطريق الذي لم يأخذ بمعايير السلامة من حيث الرؤية، ومما أسفنا له أيضاً عدم وجود أية لوحات إرشادية، فيبدو أن أحداً قد سطا عليها جميعاً، واستمر الحال طوال الطريق، وقد عانينا من ذلك خاصة عند حلول الظلام، وقضينا بعض الوقت على الطريق بحثاً عن "سيئون"، حيث لم نجد من نسأله على الأتجاه، وتلك طبيعة تختلف عما نجده في مناطق أخرى حيث تجد المحلات والسكان.
الكثير يميز وادي حضرموت، فمن غابات النخيل الساحرة في وادي دوعن حيث هبطنا في الوادي، إلى المباني الطينية الجميلة والتي أكتسى بعضها حللاً ساحرة من الألوان، إلى الجو الذي يتصف بالجفاف الشديد، ولا يخلو من حرارة تلفح الوجه، ولكن ما خفف علينا حرارة الجو تفكيرنا بمسابح الوادي المنتشرة والتي استطاعت امتاعنا بساعات من السباحة التي لا تملها.
قيل لنا كان هنا "ساحة التغيير" وبأستثناء ذلك بدت المدينة مثلها مثل المكلا غير عابئة بما يحدث في صنعاء. كانت بعض الشعارات قد طالعتنا منذ دخلنا الوادي وهي شعارات "تغيير"، ولا يخلو بعضها من شعارات ضد "الاستعمار اليمني" كما ذكر، وأعلام "لجمهورية اليمن" السابقة.
سيئون تطورت، شوارعها أخذت من المدنية الحديثة الكثير، حتى تكاد تقضى على تميزها، وأضيئت المدينة بأنوار كثيرة..... ومثل بقية وادي حضرموت ظهرت الطريق السريعة تجاورها. سيئون الهادئة أصبحت تعج بالناس، المحلات التجارية والمتسوقون يملؤون الشوارع بعد أن كانت خالية، وبعد أن كان سوق البلدية هو الوحيد.
قصر سيئون مازال علامتها المميزة، واقفاً على حاله. تاريخه يحكي تاريخ مدينة، ومازالت وظيفته كمتحف قائمة. رأينا أن المتحف قد تطور بعض الشيء، زاد ترتيبه وتم ترميم بعض الأجزاء، غير أن بقية القصر بقيت مغلقة "لحاجتها للترميم".....
تريم
عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2010م.... شوارع معبدة مضاءة، بدت المدينة وقد أكتست أيضاً حلة عصرية بعد أن كانت مهملة. منارة المحضار الطينية الشهيرة كانت مقصدنا، وعرجنا على مكتبة الأحقاف التي تزخر بأكثر من 6000 مخطوطة، وبالرغم من أننا لحظنا وجود عدد كبير من المطاعم، إلا أنها كانت مغلقة وقد قيل لنا أنها ستفتح عقب فترة "الست البيض"، لذا فقد لجأنا إلى ظلال الأشجار لتناول وجبة الغداء بعد أن علمنا أن فندق قصر القبة قد أغلق نهائياً، وقد كان الفندق مقصداً للسواح والزائرين... قصور تريم الشهيرة رممت لتبدو في حلة بهية، وبدا أنها مثل سيئون أصبحت لا تعبأ بقيض النهار فالناس يسيرون تحت الشمس وفي منتصف النهار، والمحلات تفتح أبوابها.
ساحة التغيير في تريم، رأيت منها خيمتين أثنتين، ولم يكن هناك من يمكن التحدث إليه. كانت اللافتات والأعلام تملأ الفضاء، لكن غابت الروح البشرية إلا من الناظرين.
لا بد من صنعاء
بعيداً عن حضرموت وهدوئها، حيث بدت وكأنها عالم آخر لا يعبأ بما يحدث حولها، عاشت صنعاء أياماً عصيبة خلال فترة العيد، فسكانها كانوا يتوجسون، ينتظرون "الحسم الثوري" تارة و "التصعيد الثوري" أخرى، يستمعون للتهديد والوعيد، وبأستثناء الشائعات التي أرقت السكان، وبأسثناء إطفاءات مطولة للكهرباء على غير العادة، فقد ظلت المدينة على حالها، واستمرت الشائعات تأكل في أرواح الناس... عدنا إلى صنعاء التي بدت هادئة "اكثر من اللازم" وكأنها تنتظر شيئاً ما. قوات الجيش والأمن مازالت في الشارع كما رأيناها، ورجال من القبائل تتمترس في مناطق بعينها، صنعاء مازالت تنتظر، ولم تستطع حتى الآن أن تحسم أمرها وتحتج عما يحدث لها.
السعيدة تعاني
السعيدة التي وفرت لنا إمكانية الأنتقال في هذه الظروف تعاني، ربما مثل مسميتها، فموظفو المطار لم يبد عليهم الإهتمام بالمسافرين، التأخير لم ينتج عنه حتى إعتذار لن يكلف شيئاً، والمضيفين لم يكونوا استثناء، كانوا كمن يؤدون عملهم عنوة، وبدت الطائرة متسخة مهملة..... وكأن حالها لا بد أن يذكرنا بأننا لم نغادر أرض السعيدة.
(نظراً لسوء الكهرباء سأقوم بمشاركتكم ببعض الصور لاحقاً)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق