اليمن والمستقبل المجهول
مع مرور الأيام تزداد الصورة قتامة في هذا
البلد الذي يسكنه قرابة 25 مليون إنسان، ويتصف بشحة الموارد الطبيعية والجفاف، فمنذ
حوالي ثلاث سنوات توقعت أن يتحول اليمن ل "عراق" جديد تعصف به الفتنة
الطائفية، وتمزقه النزاعات. عندما كنت
أذكر هذه التوقعات لزملائي كان الجميع يقفون في وجهي، يقولون: هذا غير ممكن
فالعراق بلد غني بالموارد ويتحمل صراع طويل الأمد وبهذا العنف، كما أن للعراق
تاريخ من العنف، أما اليمن فبلد فقير لا يمكن أن يتحمل مثل هذا الصراع، اليمن لديه
جيش واحد واليمنيين يتصفون بالهدوء والسكون إذا ما قورنوا بالعراقيين، العراق تفتت
بفعل الأحتلال، أما اليمن فلا يعاني من هذه الآفة، كما أن الظروف الأقليمية
مختلفة، ولن تسمح لليمن بأن ينهار، ووووو لم يترك أصدقائي مبرراً إلا ساقوه لدحر
إمكانية أن يتحول اليمن ل "عراق آخر".
اليوم تبخرت آمال أصدقائي، وللأسف تحولت
اليمن ل "عراق" مصغر، وقد جاء هذا التطور بسرعة لم تكن متوقعة، وتسارع
التحول بالرغم من "عدم وجود الأحتلال الامريكي"، وبالرغم من كل
"القرارات الدولية" التي كان يفترض أن تمنع ذلك، وبعد ذلك كله وبالرغم
من "نجاح" مؤتمر الحوار كما قيل لنا والذي فرض "هادي" نهايته
ونجاحه.
يبدو أن التسوية السياسية التي عقدت في نهاية
2011 لم تحقق للآن شيئاً يذكر، فالبرغم من أنها جنبت البلاد صراعاً مسلحاً مفترضاً،
إلا أنها خلقت أزمة أكثر شدة من تلك التي عانت منه البلاد عام 2011. لقد كانت البلاد في 2011 على شفا حرب أهلية،
حرب بين طرفين يمسك كل منهما بجزء من الجيش، ويمسك أحدهما بالدولة المفترضة
وأدواتها، بينما تحول الآخر لنقيض يستخدم الشارع للضغط. لو قامت حرب في ذلك العام لربما حدثت مواجهات
عنيفة كانت ستودي بحياة مئات، وربما آلاف من الجنود، وقد يعاني منها المدنيون
أيضاً، لكنها كانت حرب محسومة النتائج (لربما) لو تمكن أحد الطرفين من أثبات قوته
وهزيمة الطرف الآخر.
التسوية السياسية قسمت "الكعكة"
مؤقتاً ولم تجد حلولاً دائمة للمشكلة.
وجاء مؤتمر الحوار ليزيد الطين بلة.
بالنسبة لي فمؤتمر الحوار كان حلقة زادت الأزمة تعقيداً. فبينما كان يفترض أن يؤدي المؤتمر لوضع حلول للإشكاليات
التي تعاني منها اليمن والتي أدت لأزمة وانتفاضة 2011، جاء مؤتمر الحوار لينكأ
الجروح في جسد البلد المنهك والمريض. جاء
مؤتمر الحوار ليفتح مواضع الجروح التي أندمل بعضها أو يكاد، ويفتك بما تبقى من
اليمن كبلد واحد. لا أدري من هو المهندس
الرديء الذي صمم لهذا المؤتمر، لو كان بالطبع قصد إخراج البلد من ازمتها، فبدلاً
من التركيز على ما يؤلم المواطن اليمني وتحديد العلاج اللازم له، وكان بالطبع
يتركز في أيجاد نظام حكم عادل وقوي، وليس كما ظهر في تحول المؤتمر لساحة للمزايدات
وتحقيق المكاسب الفئوية الذاتية على حساب الوطن ككل. أدخل هذه المهندس البائس كل الأمراض والآلام،
وأدخل عدد هائل من الأعضاء يمثلون في معظمهم أسباب تلك الأمراض، ادخلها جميعاً
لمؤتمر الحوار، ووضع صيغة لا يرضى بها عاقل تقوم على "التوافق" في حل
مختلف الإشكاليات. ولم يكتف المهندس بذلك،
بل إنه خلط أمراض الماضي مع آلام الحاضر، ومعوقات المستقبل، وأراد في الأخير أن
يصل لصيغة مثالية نظرية "ترضي الكل" وتحقق بالطبع مصالح آخرين خارج
اليمن.
بعد فتح الجروح، وبعث الآلام قديمها وحديثها،
وبعد جمع الأطراف النقيضة، عمل المؤتمر على نقد الماضي، بل وهدمه، فإعلن أنه كان
عبثاً وخطأ وجريمة، واعتذر لمن أعتذر، متجاهلاً كل القيم والمبادئ، ومجرماً كل من
شارك فيه حتى لو كان مواطناً بسيطاً يرى في الماضي آمالاً تحققت وأحلاماً عاشها
واقعاً. كان التيار جارفاً لتجريد الشعب
اليمني برمته من عقود عاشها، تلقى فيها معارف وتعلم قيماً ودرس تاريخاً وخلقاً،
ليأتي الطوفان فيجعل كل ذلك سراباً.
توافق الجميع في المؤتمر، ليس لشيء، إلا لخوفهم
من الأختلاف، وكان دور الدول الغربية والأمم المتحدة عاملاً حاسماً، فأعلن الجميع
موافقتهم، فالبديل عقوبات وإجراءات-دولية- لن يتمكن أحد من تحملها، وحتى أولئك
الذين امتلكوا الشجاعة ليعارضوا، جاء هادي ليزيحهم عن المشهد، وتسير العجلة لتسحق
كل شيء، فمؤتمر الحوار لا بد أن ينجح، ولا بد أن ينتهي كما أراد له المخرج.
مع كل ما تضمنته وثيقة الحوار الوطني من
مبادئ سامية وقيم لا خلاف عليها، تضمنت أيضاً متناقضات ضد أبسط مبادئ العدالة
والقيم الإنسانية، وشملت عبارات ملتوية مطاطة، لترضي الجميع، فجاءت كدروس في الأدب
تحتمل التأويل بصياغتها الادبية الجميلة التي لا يمكن أن تمثل الواقع.
خرجت الأطراف المشاركة في مؤتمر الحوار وهي
تخطط لكيفية التنصل مما تم الإتفاق عليه، خرجت لتبدأ مرحلة الحوار الحقيقي الحر
الذي لا يتأثر ببنعمر أو غيره، بل تحكمه قناعات راسخة ومصالح واضحة، ليصبح الحوار
ووثيقته حبراً على ورق. وبأستثناء الرئيس
هادي الذي "يصر" على أن الحوار نجح وأن تنفيذ "مخرجاته" ليس
خياراً لأحد "لانه برعاية دولية"، باستثناء هادي لا يبدو أن أحد يعبأ
بالحوار.
إشتد الصراع بين الأطراف وظهر على السطح مع
الأيام الأخيرة للحوار، فأطراف كثيرة لا تريد أن تعقد الانتخابات في موعدها! تلك الأطراف تعتقد أنها غير جاهزة لهذه المرحلة
وانها بحاجة لمزيد من الوقت لتجهيز نفسها.
لكل طرف مصلحة في تأجيل الانتخابات وإستمرار حالة الفراغ، فالرئيس هادي
نفسه المستفيد الأول، حيث يبدو أن استمراره لمرحلة قادمة غير مؤكدة، وكذلك الأمر
بالنسبة للاحزاب والقوى الدينية التي رأت أنها بحاجة لمزيد من الوقت لتعزز
مواقعها، وحده المؤتمر الشعبي العام بدا جاهزاً للإنتخابات، ولكن لم يكن أمامه إلا
الرضوخ فالتيار أقوى من أن يقاومه.
خلال شهور تفاقمت الخلافات تدب بين شركاء
انتفاضة 2011، فقد وجد الحوثيون الساحة خالية أمامهم فعملوا على التمدد، ونجحوا بشكل
لم يكن أحد يتوقعه، فسيطروا على محافظات حجة والجوف، ثم أتجهوا لعمران. عمران التي تحتضن بيت الأحمر قادة الإصلاح في
جناحه القبلي. ربما لم يتصور الأصلاحيون
أن يتجرأ الحوثيون على عمران، ولكن الأدهى من ذلك أن الحوثيين وخلال أسابيع سرعان
من سيطروا على عمران، وبإتفاق مع القبائل التي قررت التحالف معه، ولم تمض سوى شهور
قلائل تمكن الحوثيون فيها من القضاء على آخر أمل للإصلاحيين في عمران بهزيمتهم
للجيش الذي كان موالياً لهم في عمران.
لم يتمكن الإصلاحيون من الوقوف أمام الزحف
الحوثي الذي وصل حتى مناطق في إب وتعز، وتحول التحالف لمواجهة مسلحة، وتقف الدولة
اليمنية موقف المتفرج أحياناً والوسيط أحياناً أخر، فقد تم تحديد الأولويات الخاصة بالدولة اليمنية في واشنطن
أثناء زيارة وزير الدفاع لها في ابريل 2014 وهي محاربة "الارهاب"، أما
توسع الحوثي فقد قررت الدولة أنه ليس بالأمر المهم، حتى ولو كان الحوثي يعمل على
حساب الدولة، متحدياً نظامها وقوانينها، وحتى لو وصل الحوثيون إلى صنعاء، وهذا ما
حدث حتى الآن. وقد أكد المجتمع
"الدولي" من خلال مبعوثه لليمن أن الحوثي لا يمثل "خطراً" على
الدولة اليمنية.
محاربة "الإرهاب" وكما حدث في 2012
عندما قام الجيش بتحرير محافظة أبين من قبضة القاعدة في غمضة عين، قام الجيش هذه
المرة بتطهير محافظة شبوة ومناطق أخرى وظهر الجيش بوصفه المنتصر في حربه الجديدة. وشيئاً فشيئاً تراجعت المعارك وتم الإعلان عن
السيطرة على معاقل "القاعدة"، ولكن الحرب لم تنته بعد، فكل يوم تتزايد
هجمات القاعدة التي تستهدف الجيش والأمن في مناطق مختلفة، لعل أخطرها ما حدث ويحدث
في حضرموت.
يستمر الصراع السياسي بين مختلف القوى
السياسية في اليمن، وفجأة تتفق مصالح حزب المؤتمر الشعبي العام مع مصالح الحوثي في
صراعهما ضد الإصلاح، وبينما يكتفي المؤتمر بإستخدام وسائل الحرب السياسية
والأعلامية، يقوم الحوثي بإستخدام السلاح ضد الإصلاح والدولة وخلق أمر واقع كل يوم
محققاً الإنتصار تلو الآخر على حليفه في "الثورة". في نفس الوقت يبدو أن الرئيس هادي لم يرقه
الشعبية المتزايدة لسلفه، الرئيس صالح، والذي تمكن من تحقيق مكاسب ناتجه عن فشل
هادي نفسه في إدارة شئون البلاد، فقام الأخير بتأجيج الصراع ملحقاً الضربات لسلفه.
يقف هادي مستعيناً كما يردد دائماً بالمجتمع
الدولي، يقف وحيداً بعد أن فقد دعم حزبه، وقوض تحالفه مع الإصلاح، في مواجهة القوى السياسية الطموحه ممثلة في الحوثي الذي
أصبح يمثل الوجه الآخر للسلطة في اليمن.
هادي الذي زكاه الناس في اليمن كرئيس توافقي فقد أيضاً الدعم الشعبي، فهاهو
يمدد فترة ولايته دون الرجوع للناخبين، وها هو يفشل في إدارة شئون الدولة لتتفاقم
معاناة الناس بشكل يومي مع إزمات متلاحقة من أزمة توفير الكهرباء إلى أزمة الوقود
والإنفلات الأمني، وأخيراً عجز الدولة عن القيام بأي دور لتعزيز سلطتها.
لا يبدو أن هادي يمتلك أي مشروع، فتهديده
المستمر للقوى السياسية بأنه يتمتع بالدعم الدولي يبين أنه فقد كل مقومات القوة
التي لديه كرئيس (وكما أشار بعضهم أنه يعمل بالمثل القائل "غرامتي ميه
وادوها")، وعجزه عن إتخاذ إجراءات قوية لحل المشاكل التي يعاني منها الناس،
وسعي حكومته لزيادة اسعار المشتقات النفطية كوسيلة لتغطية العجز الناتج بدرجة
رئيسية عن الفساد السياسي الذي لازم عهدة الذي أمتد حتى الآن لثلاث سنوات، كل ذلك
لا يبشر بخير، فالشعب لن يستطيع تحمل المزيد، والقوى السياسية لن يروقها سعي هادي
الواضح للبقاء في السلطة.
إن القوى السياسية ستسغل حالة الفراغ الذي
تعيشه البلد وعدم وجود سلطة قوية تقوده نحو المستقبل، ستستغل هذه الفرصة لتعزيز
مواقفها، إنتظاراً لجولة الصراع المقبلة، فالأفق غير واضح أمام مختلف القوى،
والوضع الحالي أبعد ما يكون أن يخلق حلولاً.
ولكن هل يمكن للناس أن يتحملوا أكثر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق