الأربعاء، 23 يوليو 2014


ويظل الشرق شرق                                                              نوفمبر 2013

يرى كثير من الشرقيون أن "الغرب" قد ظلمهم واجحف في حقهم، فهو الذي استعمر بلادهم و "أخذ خيراتها"، وبنى حضارته وثراه من هذا "الظلم" الذي ألحقه بهم.  ويحلوا للشرقيين أن يدعو أن سبب كل مشاكلهم ومآسيهم ونزاعاتهم وفقرهم هو "المؤامرة" الغربية التي تعمل على إبقاء الشرق ضعيفاً، ونجد العرب والمسلمين بصفة خاصة أكثر الناس لوماً للغرب ولمؤامرته التي لا تنتهي، لذا يظل الشرق شرقاً، ويظل الغرب غرباً.

يعيش الشرق تحت وطأة جملة من المعتقدات والعادات والتقاليد الإجتماعية التي تكبله، وتجعل تقدمه أمراً في غاية الصعوبة، خاصة إذا ما كان يحاول تمثل الحضارة الغربية ويعمل لنسخها بما في ذلك إنشاء أنظمة حكم "ديمقراطية" تعتمد على الأسس الغربية في الحكم، وبمجرد الملاحظة البسيطة نجد أن "الشرق" فشل في تمثل الحضارة الغربية بكامل مكوناتها، والنجاح الذي نشاهده "اقتصادياً" في اليابان وماليزيا والصين مثلاً مرتبط بالثقافة المحلية، ولم يخرج عنها، وفشل الهند يبدو أنه مرتبط بمحاولتها اتباع نهج الحكم الغربي.

عادات الإنسان في الشرق متشابهة إلى حد كبير، ويبدو أن تكوينه النفسي أيضاً متشابه برغم أختلاف الثقافات، فهناك مكونات مشتركة تكاد تكون الطابع الأغلب لدى الشرقيين، والتعامل يبين الإختلافات بين الشرقي والغربي، وهناك العديد من الأبحاث السلوكية التي حاولت تصنيف البشر، وجل تلك الأبحاث بالطبع غربي المنشأ، ولو استخدمناها لوجدنا من يفندها ويتهم "الغربيين" بالمؤامرة على "الشرق".

التجارب الشخصية تمثل منبعاً غنياً، فأنا في الأصل ممن آمنوا لسنوات بنظرية "المؤامرة"، وكنت أنتقد المنهج "الغربي" في تصنيف الأمور، بحيث يبدو "الغرب" هو المثال، ولم يخطر ببالي حينها أني "سأكفر" يوماً بهذه النظرية، وأصبح "اقرب" للمنهج الغربي، وأنا "العروبي" الذي قضيت سنوات أغني للعروبة، واتغنى بالأمجاد والتاريخ.  اليوم تجاربي الشخصية جعلتني اسقط نظرية المؤامرة، وأفسر فشل "الشرق" وخاصة "العرب" بتفسير آخر......

عملت لسنوات طوال في أعمال عدة، وتعاملت بشكل قريب مع آلاف من البشر، كنت دائماً أعتمد في تعاملي على الوضوح والبساطة، وكنت أتجنب، وأنا الذي عملت كمدير، أن اخلق حاجزاً بيني وبين من يقعون تحت مسئوليتي.  قد يكون ما تعلمته من "فنون" الإدارة هو السبب، وقد تكون طبيعتي البسيطة. 

تعاملت مع جنسيات متعددة، وفي بلدان عديدة، عقدت صداقات وكونت علاقات عمل مثمرة، وأختلفت مع الكثيرين، وشاهدت ألواناً من البشر، وسأحاول في كلمات قليلة أن أنقل انطباعاتي وتجاربي، واستنتاجاتي من كل ذلك.  لكنني مع ذلك لن استطيع تجاوز تاريخ حوالي ثلاث سنوات من الأمل والألم عشتها في هذا الجزء من العالم، وفي واحدة من أكثر دول العالم غرابة اليمن.

يعتمد اليمني في تعامله معك على عدد من المعطيات، من ناحية الشكل قد لا يختلف كثيراً عن بقية العالم، فمظهرك و"قيمة" ما ترتديه هو المقياس، لكن العنصر التالي هو الأهم، وهو من أنت، والمقصود هنا ليس شخصك، بل من أي عائلة، قبيلة، منطقة.  اليمني يرى أن الأنسان هو بمحيطه وليس بشخصه، بأسرته ومكانتها في المجتمع، وليس بنفسه، بالقبيلة التي يأتي منها ومدى تأثيرها، بعلاقاته ومدى قوتها.

بمجرد أن تلقى يمني سيضع تقييمه الأول بناء على تلك المعطيات، وتأكد أن تعاملك معه سيكون أساسه ذلك وليس غيره.  ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فإنت هو أسرتك ومنطقتك وقبيلتك وعلاقاتك، ووفقاً لذلك سيكون تصنيفك.  فلو كنت مثلاً من مصر فإنت "محتال ومخادع"، ولو كنت من "لبنان" فإنت "تفتقد للشرف" ولو كنت من "تهامة" فإنت ضعيف لا قبيلة لك ولا سند، وهكذا.

تصنيفك الأول، من أنت، سيؤثر بالضرورة على أي معطيات قد تأتي فتعليمك يصبح غير ذو أهمية، ففقدانك للسند يقلل بالضرورة من قدرتك على الفعل، بل ويقلل من شأن معرفتك وخبرتك.  في الحقيقة لا يأتي العلم ثانياً بل أسلوب تعاملك وتصرفك، وهنا لا تفيدك الحكمة، بقدر ما تفيدك الجرأة، ولا ينفعك حسن التصرف بقدر ما ينفعك قدرتك على أثبات وجودك وسيطرتك.

علاقتك باليمني ستكون بالضرورة محكومة بالأمور السابقة، وسيكون تصرفه معك مبني عليها، وحتى لو استطعت "تغيير" نظرته إليك عبر تعاملك بطريقة مخالفة، سيظل عقله الباطن يضعك في خانة خاصة بك، وسيبطن ذلك ويظهر ما يسرك، لكن لا تتفاجأ، فسيأتي اليوم الذي يظهر السر، عندما تصبح خارج الحلبة. 

يبني اليمني علاقته بك على "المصلحة المطلقة"، فلا تنتظر يوماً أن تبني علاقة "انسانية" وثيقة، فالمصلحة والمصلحة فقط هي المسير لعلاقتك معه، وحالما تنتهي المصلحة يتلاشى اليمني، ويختفي.  إذا تمكنت من عقد علاقة مع يمني، فلا تأمن "شره".  سيضحك معك، سيأكل معك، ستعتقد أنه صديق "حميم"، لكن ذلك لا يعني شيئاً بالنسبة له.  إن كنت في الأعلى وهو في الأسفل، لا تعتقد أن "ضعفه" سيمنعه من المحاولة، محاولة الإضرار بك، طبعاً طالماً أن ذلك يوفر له مصلحة أو يزيد من فرصه.  أما إن كنت في الأسفل وهو في الأعلى، فأعلم أنه لن يفصح لك ما يريده منك، بل سيخبر آخر وثالث، وسيتوقع منك أن تصلك الرسالة، فلا تتفاجأ عندما "يغدر" بك يوماً، و"يصفعك".

كلما كان اليمني يرتبط بصلة قربى بآخر كلما كانت العلاقة بينهما أسوأ، وكلما كانا من منطقة واحدة كلما كانا أقرب إلى التنازع، الحسد يفصل بينهما ويجعلهما أقرب للأعداء، منه للأصدقاء.  فالغريب عند "اليمني" أقرب من القريب!  فهو موطن ثقته وحافظ اسراره.

يعمل اليمني ما يكفي، فهو لا يتقن عمله، فليس من المهم "الكمال" بل القيام بالمهمة فقط، فإتقان العمل هو الوصول للحد الادنى، وليس الحد الأعلى!- طبعاً هنا شعور عام وهناك بالطبع استثناءات كثيرة وكثيرة جداً.

ماذا عن العرب، يا ترى؟  يرى كل "عربي" بأنه "أفضل العرب"، ويؤمن في نفسه بأن بقية العرب "متخلفون".  فلو تحدثت مع مصري لعلمت أن "المصريين" في وجهة نظره هم "قمة العرب"، ولا شك أن "الأردني" يؤمن بأن "الأردنيين" هم الأفضل، وهكذا مع السعوديين والإماراتيين، وهكذا.  مع ذلك فكل العرب "يؤمنون" يقيناً أن "الخواجا" هو الأفضل، فهو صاحب الخبرة، والمعرفة، وأهل للثقة.  لكن ذلك ليس أمراً مطلقاً، فالغرب يأتي في مقدمة "قائمة المحترمين" عند العرب.

يعمل العربي كاليمني، من حيث تعامله، فهو "باطني" لن يخبرك بما يريده منك، سيقيم عملك ولكن لا تتوقع منه أن يكون صريحاً معك.  العربي يؤمن بأنه "الأذكى" لذا لا تحاول فهمه.  العربي سيتعامل معك لتحقيق مصالحه، ولكن ليس لذلك فقط، بل لأنه يؤمن بأنه الأذكي فيسعى لإستغلال "غباءك" لتحقيق مكاسب أخرى، قد لا تفهمها!

يختلف الشرقيون في تعاملهم، ولا شك أن لديهم بعض الصفات المشتركة مع اليمنيين والعرب، فعدم أيمانهم بأنفسهم ظاهر، وإن كان كل واحد منهم يعتقد "بكمال نفسه" فإنه لا يؤمن ببني جنسه، ويسعى للإضرار بهم مطلقاً.  كما أن جانبهم أيضاً لا يؤمن، فهم لن يفصحوا عما يظنونه بك، ولن يسعوا يوماً لمصلحتك، مثلما يسعون لمصلحة أنفسهم.

ينطلق الشرقيون بما فيهم العرب واليمنيين من إرث حضاري وثقافي عمره آلاف السنين.  حضارات سادت وبادت، لكن أثرها النفسي على الأنسان مازال بادياً حتى اليوم، وبغض النظر عن الأختلافات فإن هناك الكثير من الشواهد على عناصر مشتركة وطاغيه.  هؤلاء تحكمهم ثقافة مجتمعية تجعل الفرد فيهم ذائباً، غير ذي قيمة، فمهما تمكن الفرد من النجاح، فإنه لا شيء بدون أسرته وقبيلته.  ذلك الإرث لا يحكم فقط وجود الإنسان بل ونفسيته أيضاً، فالولاء للأسرة والقبيلة هو الأقوى، لذا يسعى الناس للدفاع عن هذه المكونات، ومهما كان الأمر فلا يمكن لفرد أن "يخرج" عن القبيلة، حتى ولو كانت "ظالمة"، ومهما كان الأمر لا يمكن للفرد أن يقف ضد قبيلته، بل ويتوجب على الفرد أن يعمل لخدمة هذه المكونات فهذا واجب مقدس وأمر لا يمكن أن ينجح الإنسان إلا به.  وحتى إن كان الفرد قد "تحرر" لسبب أو لآخر من "قبيلته"، فإنه يسعى بكل قوته لخلق "قبيلة" خاصة به.  تلك التي تعمل على حماية مصالحة الذاتية.

ثقافة مبنية على إرث قديم، مقدس، إرث أصبح جزءاً من الشخصية التي تكون الفرد والمجتمع.  إرث تضعف فيه قيم أساسية، قيم العدالة والصدق.  سيقول قائل إن التنافس على الموارد على مدى آلاف السنين، وحب البقاء هو السبب، وسيذكر آخرون أسباباً أخرى، لكن ما يهمنا أن ضعف تلك القيم هو المؤثر الرئيسي في مجتمعاتنا الشرقية.

صراعاتنا لا تنتهي، أحقادنا لا تنمحي، وحياتنا تظل أسيرة لماضي وحاضر، في زمن تحررت، وتتحرر فيه الإنسانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق