الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

رحلة عيون سردد (3): وادي الضَيق:


رحلة عيون سردد (3): وادي الضَيق:

كانت ليلة استثنائية على رمال الوادي الناعمة، وحيث كانت النجوم متلألئة والسماء صافية.  وما أن تفتحت عيوننا حتى وجدنا أنفسنا في الماء، عند الفجر.  تناولنا فطورنا مع القهوة في النبع لم يكن أحد مستعداً لمغادرة المكان، واستمتعنا لسويعات كانت تمر بأسرع مما كنا نرغب.  بدأت الأسماك تصحو وتدغدغنا، لكن الخطة كانت تقول بأن علينا مواصلة الرحلة، ولكن لم يكن منا من يرغب في مغادرة المكان.  بعد تلكوء زاد على الساعة قمنا بحزم أمتعنا لنواصل المسير.

كان الوادي قد خلا من الناس بعد مغادرة العائلة التي كانت على البعد.  تحركنا أخيراً وفي أذهاننا الوصول للماء البارد، حيث علمنا أن مياه سردد تنبع من جهتي الجبل، المياه الحامية كما تسمى "وهي في الواقع فاترة"  حيث قضينا يومنا، أما في الجانب الآخر من الجبل فتنبع المياه الباردة، ليلتقي النبعان في الوادي على بعد أكثر من كيلومتر.  كان يشغلنا ايضاً التحدي الذي سنواجهه في أجتياز الوادي والصعوبات التي تتطلب مهارة خاصة وقوة.

وصلنا بسهولة لملتقى النهرين الحامي والبارد.  إختبرنا الجزء البارد فوجدنا المياه فعلا أكثر برودة.  أخذنا قسطنا من الإنتعاش في المياه الباردة، وواصلنا سيرنا.  كان السير في أغلبه في مياه الوادي، وقد حاول بعض الزملاء تجنب المياه عبر المرور في جانبي الوادي، لكنهم سرعان ما أدركوا عدم جدوى ذلك.  سرنا في طريق ملتوية نتلمس السهل، بينما المياه متدفقة بغزارة.  بدأت الشلالات تظهر، ونحن نحاول التحايل عليها....

كلما تقدمنا كلما كان الوادي يضيق، وتزداد صعوبة الحركة مع زيادة حجم الصخور وانعدام الطرق البديلة على جانبي الوادي الذي بدا أكثر وعورة.  بينما نحن نبحث عن وسيلة لتخطي أحد العقبات إلا ونحن نشاهد هذا الرجل التهامي بسحنته، والذي يرتدي ظلوله.  يحيى سليمان، عرفناه وبسهولة أندمج مع مجموعتنا وشرع في مساعدتنا بحمل بعض الأمتعة.  بدأ بمساعدتنا على تجاوز العقبات، ووصلنا ل "خزنة الجن" التي بدت صخرة سوداء صلبة تختفي في تنيات الصخور على جانب الوادي الأيمن.  أصر يحيى أن يرينا أياها مؤكداً أن تحوي نفائس الجن، وبأن هناك من حاول فتحها خاصة الرجل "الهولندي" الذي أتي بمعدات لفتحها لكنه مع ذلك لم يتمكن.  شاهدنا "الخزنة" وأثار تبين أن أحداً حاول فعلاً الحفر على جانبها.

بعد الخزنة ضاقت الطريق بشكل عجيب ووجدنا انفسنا أمام شلال كبير يستحيل عبوره، بينما كان جانبا الوادي من الصخر الصلب الأملس، وخلنا أنفسنا وصلنا لنهاية الطريق، فإذا سليمان يدلنا على فتحة صغيرة بين الصخور، كانت هي المخرج الوحيد، حيث تمكنا بصعوبة من الدخول عبرها للأسفل، وكان لزاماً علينا أن نقفز إلى الماء، وهنا كانت مساعدة يحيى ضرورية لتجنب ابتلال الامتعة بالماء.

علمنا أن هذه المنطقة من الوادي تسمى "الضيق" بفتح الضاء، وهي تدل فعلاً على صفة الوادي الوعرة والفريدة، أما الوادي الذي تنبع منه العيون فإسمه وادي داعر، وهكذا فكل قسم من الوادي يتميز بإسم خاص به.  واصلنا مسيرنا وتجاوزنا مناطق صعبة جديدة إلى أن وصلنا لمتسع في الوادي، وتحت شجرة حطينا رحالنا في إستراحة، ودعنا فيها يحيى.  يحيى كان عاملاً اساسياً في عبورنا المناطق الصعبة في الوادي، ولولاه لا ندري كيف كنا سنتجاوز هذا التحدي.  أبدينا له شكرنا وامتناننا قبل أن يغادرنا عائداً، ولم نفكر حينها كيف سيتمكن من العودة في تلك المناطق الصعبة، لكننا كنا نشعر أن الحظ كان حليفنا.

إستمر مسيرنا بعدها وواجهنا مناطق صعبة، لكنها لم تكن بنفس صعوبة المناطق التي سبقتها، وكان مسيرنا في أغلبه في الماء، ومياه الوادي تتدفق بغزارة.  كان هدفنا التالي هو "الدكان".  لم يكن هناك أناس في طريقنا حتى عندما بدأنا نرى بعض المزارع البسيطة على جانبي الوادي لم نشاهد أحداً، لكن مع تقدمنا التقينا ببعض الناس الذين ابدوا استغرابهم من هذا الجمع الذي يسير في الوادي.  كان سؤالنا عن الدكان، وكان الدكان هو المعلم الأكثر شهرة في المنطقة.  سألنا أيضاً عن حمام سردد حيث أشار البعض إلى ان الحمام الآن به أماكن للنوم ودكان يمكن التزود منه ببعض الحاجيات. 

توقفنا على جانب الوادي واخذنا نصيبنا من الغداء قبل أن نواصل المسيرة في الوادي.  بالرغم من كل المشقة فإننا كنا نشعر دوماص بالنشاط ونحن نعبر المياه من يمين الوادي ليساره جيئة وذهاباً.  وأخيراً وصلنا لمقصدنا.. الدكان...  كنا حينها قد بدأنا نفكر في التوجه مباشرة إلى الحمام للمبيت هناك بناء على ما سمعناه من بعض السكان، ولكننا آثرنا التزود ببعض الماء من الدكان.  كان الدكان في أعلى القرية التي تحتوى على بيتين لا غير.  وصلنا بعصوبة لمقصدنا، وأخذنا بعض العصير المعلب ونحن نتحدث لصاحب الدكان عن رغبتنا في مواصلة السير.

الدكان كان غرفة صغيرة للغاية، تحتوي على ثلاجة وبعض الاغراض، وقد أدهشنا أن العصير كان بارداً وعلمنا أنه يستخدم الغاز في التبريد، كما أن الدكان كان مضاءً، وقد سارع "حيدرة" بالشرح بأنه يستخدم الطاقة الشمسية في الإضاءة.  قال حيدرة بأن الحمام ليس مهيئاً، وبأن موسم الحمام لم يحن بعد وبأن ذهابنا لن يكون له معنى، وعرض علينا الإقامة في غرفة كبيرة نسبياً بجانب الدكان قال أنه انشأها لعابري السبيل، وكان فخوراً بالقول أنه تم المقيل لعرس في نفس الغرفة.

بعد جدال اتفقنا على المبيت ومواصلة السير اليوم التالي صباحاً.  أدخلنا امتعتنا في الغرفة، ونزلنا مجدداً للوادي للوضوء، وبعد الصلاة جلسنا نحضر للعشاء ففوجئنا بصحن من اللبن والخبر البلدي وأبريق شاي يأتينا من إمرأة يبدو أنها زوجة حيدرة.  أستمتعنا بطعم اللبن مع الخبز، وما هي إلا دقائق ونحن نتجهز للنوم.

كان حيدرة وعدد آخر من الرجال والنساء قد أتخذوا جانب الدكان مكاناً للسمر.  كان هناك مصباح مضاء يبدد ظلام الليل الحالك.  واستمر السمر لأكثر من ساعتين بينما جهزنا مكان النوم فمنا من فضل النوم في الغرفة ومنا من أتخذ سطح الغرفة مكاناً للنوم.  كانت ليلة استثنائية حيث لا شيء سوى ظل الجبال الحالك السواد والسماء المليئة بالنجوم وكأنها لوحة مرسومة.
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق