ثورة الشباب... والقبائل والعسكر
"الثورة يقوم بها الشرفاء ويستفيد منها الأوغاد" مقولة مشهورة لم أتمكن من معرفة صاحبها، مقولة طالما سمعتها عن ثورة سبتمبر 1962م وغيرها من الثورات العربية ونحن نعيش الإنتكاسة تلو الأخرى منذ أفول زخم الثورة العربية في منتصف القرن الماضي. لم أكن أتصور أنني سأعايش عهداً آخر للثورة والثورات العربية في القرن العشرين لم يمض عليها نصف قرن من الزمان.
ثورات العالم العربي لم تصمد كثيراً، فسرعان ما أنحرفت عن مسارها وتحولت لخدمة أنظمة مستبدة، وبخلاف الثورة الفرنسية التي مازال العالم يتغنى بها لليوم، سرعان ما بدأ التشكيك في الثورات التي إجتاحت العالم العربي منتصف القرن الماضي. خلال أقل من نصف قرن رأينا المصريون يترحمون على العهد الملكي، واليمنيون يتساءلون إن كان حالهم الآن أفضل مما لو بقيت الإمامة والإستعمار، وهكذا في بقية الدول العربية التي فشلت في تحقيق أدنى طموحات شعوبها. الكثيرون أصبحوا ينظروا للثورة كعدو، بل وزعم البعض أن الثورة قوضت الكثير من الأشياء الجميلة وخلقت واقعاً مضطرباً لم يتمكن من تحقيق شيء.
هل فشل الأنظمة أدى إلى فشل الثورات العربية، أم أن فشل الثورات هو من جاء بهذه الأنظمة؟ لا شك أن القضية جدلية!
تجتاح العالم العربي في الوقت الحاضر ثورات جديدة في شكلها، جديدة في مضمونها، وبالرغم من تباين الأحوال في مختلف الأقطار العربية إلا أن القاسم المشترك هو خذلان الأنظمة العربية لطموحات الشعوب. الثورة بدأت في تونس لتنتقل مثل "النار في الهشيم" إذا صح التعبير لبقية دول العالم العربي، ولم يجدي ما قامت به الأنظمة من إجراءات إسعافية، ولن تنفع عمليات التجميل التي تتم إلا أنها قد نتجح في تأخير وقت الثورة.
في اليمن، حيث كان الإحتقان السياسي على أشده، جاءت ثورة مصر لتضيف الزيت على النار. خرج الشباب، وكان خروجهم مفاجئاً حتى للمعارضة نفسها التي ظلت حتى تنحي مبارك عن السلطة تطالب النظام بالإصلاحات، وكان أقصى طموحاتها أن تتمكن من وضع أسس مناسبة لإنتخابات نزيهة. سرعان ما تطورت حركة الشباب وأكتسبت زخماً برغم أن مطالبهم لم تكن سوى "تقليداً" لمطالب الشباب في مصر، وبالرغم من إختلاف الظروف فإن هذه الحركة سرعان ما أكتسبت تأييداً من أعداد متزايدة.
رأى تكتل أحزاب اللقاء المشترك، وهو أكبر الحركات المعارضة الذي كان يتفاوض مع نظام الرئيس صالح، أن "يترك الأمر للشارع" في بداية الأمر، ثم عاد بعد أيام "ليعلن تأييده لحركة الشباب وإنضمامه إليها". هذا التحول المفاجئ في موقف المشترك يفسره موقف أسرة الشيخ عبدالله الأحمر، وهو موقف يعبر عن قطاعات واسعة من القبائل، ولا يخفى على أحد دور هذه الأسرة في حزب الإصلاح الإسلامي المعارض (احد أحزاب المشترك). أضف إلى ذلك أن أسرة الشيخ الأحمر التي تملك أثراً سياسياً كبيراً ظلت على مدى ثلاثة عقود في تحالف مع الرئيس صالح وإعلانها إنفصام هذا التحالف كان يعني إنقلاباً في موازين القوى، لم يكن لأحزاب اللقاء المشترك أن تتركه دون أستغلال بعد أن اكتسب مصدراً جديداً للتأثير.
سرعان ما سيطرت أحزاب اللقاء المشترك على "ساحة التغيير" الرئيسية في صنعاء لعدة أسباب لعل أبرزها القدرات التنظيمية لحزب الإصلاح والتي كانت ضرورية لإستمرار حركة الإحتجاج، ثم الدعم الذي قدمته أسرة الشيخ الأحمر وقبائلها، وأخيراً فإن أعضاء التكتل الين يمثلون أطيافاً سياسية متعددة ألقى بزخم جديد إلى الساحة.
ساحة التغيير الرئيسية في صنعاء هي مسرح يمكن للمرء أن يلحظ فيه تغير "الثورة" وما يطرأ عليها، وهو مشهد فريد من نوعه.
في الأيام الأولى كانت الساحة ملتقً للشباب، تملؤه الحيوية والنشاط، كانت الأمور تتبلور. كان الشباب يسيطرون على الساحة، يسيطرون على مداخلها، ويسيطرون على قلبها. يتأكدون عند الدخول من عدم وجود السلاح لدى الزائر، يرحبون به، كانت الخيام تنصب والشباب يروحون ويجيئون، كان الشباب يعبر عن نفسه من خلال إبداعات تنوعت، فمنهم الرسام صنع لوحاته وأبدعها، ومنهم المتحدث أعتلى منصته وجهر بكلماته، ومنهم الفنان ترنم بأناشيده وسخر بفكاهته، ومنهم الرياضي يقود فريقه، ولا ننسى المخزن على الرصيف وما حمله رأسه من هموم.
تجد في كل ركن من الساحة شاباً أو مجموعة من الشباب يبهرونك بحماسهم وجدهم، كأنهم يبنون بسواعدهم عالماً جديداً. منهم من ينصب الخيام، ومنهم من يهتم بالأمن ومنهم من يهتم بالإعلام وحتى النظافة كان لها نصيب كبير من جهد الشباب. كانت تعبيرات الشباب تتوزع وتتنوع بتنوع المجتمع اليمني، وكان الفضاء مفتوحاً، وكان وسط الساحة يلتهب بالأغاني الوطنية وهتافات: "الشعب يريد إسقاط النظام". الزوار من شباب وكهول ونساء وأطفال يأتون، يلقون كلمهاتهم يبعثون الحماس، يعبرون عن مشاكلهم وطموحاتهم وسط هتافات وتشجيع... أصبح لمن ليس لهم صوت أن يعبروا على الملأ وأن يقولوا ما يشاءون، كان الجميع يتحرك بحرية، الشباب والشابات، الرجال والنساء، كان الكل يحترم الكل، كانت الساحة مهرجاناً مفتوحاً مليئاً بالحيوية لم تر له اليمن مثيلاً.
أسبوع، أسبوعان، ثلاثة، خمسة، تمر الأيام وتنظم للساحة جماعات جديدة وأفراد، المهنيون،ـ ممثلو الحارات والمناطق في صنعاء وغيرها، المثقفون، الأكاديميون وأخيراً التكتلات السياسية التي أنظم لها المشترك بأحزابه. كان يمكن ملاحظة الخيام تزيد وتنصب كل يوم، ونطاق الساحة يتسع، وكانت كل جمعة تحمل زخماً جديداً تأتي به القبائل من خارج صنعاء، فيزيد عدد المعتصمين منهم.
توسعت الساحة وزاد عدد الخيام، وكذلك المعتصمين، تغيرت الوجوه وتبدلت، أصبح أفراد الجيش هم الذي يتولون تفتيش الداخلين للساحة، سرعان ما تلحظ تبدل الوجوه فرجال القبائل بأزيائهم التقليدية يروحون ويرجعون، ولكن الأغلبية تحت سقوف الخيام، يمضغون القات ويدخنون. زاد عدد المخزنين إذن، وقل عدد الرياضيين الذين كانوا يملأون الساحة نشاطاً. إنتشرت المخلفات، وظهرت لوحات تحث على النظافة!... مقاطع من الساحة لم تعد تختلف عن جارتها تلك... في التحرير..
منذ دخول الساحة تلتقي أذنيك بخطاب عبر مايكروفون، بعضهم يلقون كلمات، بعضهم يعلن إنضمامه للثورة. تسير مسافة وأنت تبحث عن مصدر الصوت فلا تجده. أثناء ذلك تمر على أحد الخيام وعليها قائمة "بالأسرة الحاكمة" .. تدقق فيها فإذا قد تم شطب بعض الأسماء!!! وبعضها كتب بجانبه كلمة "إنضم"... بينما تأخذ صورة لتلك اللوحة يأتي أحد الشباب "هذا كان أول مطلوب للثورة؟" يقول... ثم يرحل...
مازال نفس الصوت يلاقي أذنيك وأنت تتجه نحو مركز الساحة من ميكروفون معلق على عمود الإنارة، الخيام منصوبة على الجانبين، تلاحظ أن الأرصفة بدت عارية؟ ماذا جرى؟، تلحظ أنه تم إستخدام كسوتها بعد تفتيتها لنصب الخيام!...أختفى المخزنون من على الأرصفة! أصبحت معظم الخيام تحمل إسم الجماعة الخاصة بها.. قبيلة فلان.. جماعة علان... إختفت الأسماء المبتكرة (خيمة الصمود.. خيمة التحدي...إلخ)... تطالعك لوحات كبيرة لشهداء مذبحة الجمعة منصوبة على الخيام وهي تقول شهيد (منطقة كذا)....
طالت المسافة وأنت تسير بجانب الخيام المنصوبة وبداخلها أناس أتخذوا مواضع التخزين... بدا على بعضهم الحماس في الحديث، وآخرون أجتمعت أنظارهم على شاشة تلفاز صغيرة، وقلة كانوا مشغولون بشئون آخرى.
تتساءل أين الشباب؟... أين المتحدث الذي كان في هذا الركن، وأين الفنان الذي كان يعرض لوحاته هناك، وأين .. وأين؟ حتى تصل إلى مركز الساحة، بضع مئات من الناس تجمعوا هناك يستمعون إلى المتحدث عبر المايكرفون، تكتشف أنه نفس مصدر الصوت الذي طالعك عند دخول الساحة.. الآن مدير الأوقاف بمديرية معين يعلن إستقالته، ويتبعه متحدث يلقى كلمات: الكافر... وووو..... النساء حولهن سياج من الشباب لحمايتهن وهن يفترشن الأرض، الرجال في الجانب الآخر حول المنصة....
بين الخيام يجلس مجموعة من الشباب، أحدهم يقول "كيف ذلحين بيتفاوضوا وقد تركوا الشباب؟ لازم نبين مطالبنا، لازم يتفاوضوا مع الشباب! .......
العسكر على مداخل ساحة الأعتصام، ورجال القبائل يملأون الساحة.... المبادئ التي قام الشباب بثورتهم لأجلها أصبحت مجالاً للتفاوض، الفساد ومحاربته، والعدل وإقامته، كثير من الشباب يحاولوا إقناع أنفسهم بأن سياسة "مهادنة" الفاسدين وقبولهم في "الثورة" والتجاوز عن بعض متطلبات الثورة هو أمر ضروري، لماذا؟ .. لنجاح الثورة ، كما يقولون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق