الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

الشياطين

نؤمن نحن المسلمون بوجود الشيطان الذي هو رمز لكل شر، وهو سبب معاناة الإنسان لأنه وحده هو المسئول عن زرع الشر في نفوس الناس و "الوسوسة" لهم ليبعدوا عن طريق الحق وجادة الصواب، ولا يختلف الأمر كثيراً عند غيرنا من البشر، حيث يرتبط كل شر بالشيطان، وذلك أمر يريحنا، فنحن البشر لا نريد أن نفكر ولو للحظة أننا مصدر الشر ومنبعه.
بدأت "ثورتنا" في اليمن بمبادئ سامية، خرج الناس يتطلعون لمحاربة الشر، ويبغون أن يسود العدل في البلاد. خرج الناس ضد ما رأوا أنه ظلم لحق بهم، وظيم لن يستطيعوا أن يتحملوه. خرج الناس بأحلامهم لمحاربة ما رأوا أنه "الشيطان" الذي أتعس حياتهم وجعلها جحيم لا يطاق. خرج الناس يجمعهم الأمل بمستقبل مشرق، ويدفعهم حب الحياة للتضحية لأجل أنفسهم ولأجل أبنائهم وأخوانهم، خرجوا يريدون "التغيير" والتغيير هنا كلمة لم يتفق من خرجوا حول معناها، فمنهم من رأى التغيير بتبدل الأحوال ليحصل على عمل وأمل لمستقبله، ومنهم ما رأى التغيير في سلوك الناس وأخلاقهم ومبادئهم التي أصابها ما أصابها من العطب، ومنهم ما رأى التغيير تبديل في الحكم لا غير.
مع الأيام لعب "الشيطان" لعبته، فإذا ما خيل لنا أنه أمل في مستقبل أفضل، يتحول إلى سراب، وإذا ما رأينا أنه محاربة "للشيطان" نتج عنه فتح أبواب الشياطين، لتصبح حياتنا أشبه بالجحيم.
شيطان الثورة:
نبدأ بهذا الشيطان الذي صور لنا أن "الغاية تبرر الوسيلة"، فإذا المبادئ السامية والأخلاق العالية التي بدأت بها حركة "المظلومين" تتحول وتتبدل، فالمبادئ تحولت إلى لعبة في يد الكبار قبل الصغار، وأقتنع من أستطاع أن يقنع نفسه بأن "الثورة" لا بد أن يشوبها ما يشوبها من "الأوساخ" وإذا باللعب بالأوراق السياسية تغلب "حماس الثائرين"، وإذا الحسابات تتصدر المشهد، وإذا الفاسدين المطلوبين يصبحوا ثواراً، وما ضير ذلك (في وجهة نظرهم) إذا كان سيؤدي إلى النصر!.
شيطان الثورة يبرر لنفسه تحويل حياة الناس إلى جحيم، ومعاقبة أولئك الذين لا يلتحقون "بركب الثورة" حتى لو كان أولئك يمثلون غالبية الناس، فشيطان الثورة يرى " أن الشرعية الثورية هي الأساس " وأن "من ليس معنا فهو ضدنا" وتلك المقولة التي تكررت على شفاه العديد من رجال الدين (الثائرين) هي نفسها التي قالها بوش الإبن! قبل سنوات.
شيطان الثورة لا يرى ضيراً في دفع الشباب للموت، نعم للموت في مواجهة لأخوانهم وجيرانهم، فهي في رأيه شهادة يستحقون بها دخول الجنة! لكنه لا شك يعلم بأن القائل والمقتول في النار، وإلا ما كان شيطاناً. شيطان الثورة يرى في الدماء وقوداً يستمر فيه في حرق الأخضر واليابس.
شيطان الثورة يحتل مؤسسات الدولة، يحرق، وينهب ويسرق! لا يترك شيئاً، والهدف؟ إحراج النظام ووضع قدرته على الإستمرار على المحك. شيطان الثورة استعان هذه المرة بشياطين كانوا أكثر جرأة منه، فلم يرعوا حرمة لشيء. وأحتفل "الثائرون" بشهداء "الثورة" من الشياطين، بل وصلوا عليهم داعين لهم الرحمة والمغفرة.
شيطان الثورة لم يجد ضيراً في قطع النفط وتخريبه، فهو يراه مسانداً للنظام وأداة من أدواته، ونسي أن شعب كامل يقتات من هذا النفط ويعيش عليه. أستطاع الشيطان أن يخنق الصغير والكبير في اليمن، وأصاب في مقتل مصادر العيش لآلاف وملايين من الناس. عندما جاء النفط من خارج البلاد، وجد سبيلاً آخر فقطع الطريق حتى لا يجد اليمني سبيلاً للحياة.
شيطان الثورة يواصل قطع وتخريب الكهرباء، فهذا الشعب الذي "لا يرى مصلحته" لا يستحق إلا أن يعيش في الظلام. هاجم محطات الكهرباء، قطع إمدادات الوقود، خرب خطوط النقل، وقال: هو شيطان الحكومة يريد أن يعيش الناس في ظلام.
شيطان الثورة يقلق الأمن، يحتل الشوارع ويغلقها، يستخدم القبائل لإثارة الفتن، يعتدي على المعسكرات والجنود، يغلق المصالح الحكومية، يقطع الطريق، يقسم الجيش، يجند الإطفال، يعسكر الجامعات، يمنع الأطفال من الذهاب لمدارسهم، كل ذلك لمصلحة "الثورة".
شيطان الثورة خرج بأبواق متعددة، ولم يجد مشكلة في تجنيد شياطين الإنس، الأعلاميين ودعاة حقوق الإنسان. مجلات، صحف، تلفزيون، تقارير. لسان حال هؤلاء الشياطين يقول: "الثورة مقدسة- منزهة عن كل عيب، وهي الحق وهي المستقبل وهي الطريق إلى الله وكلمته على الأرض، وهي التضحية، وهي الشهادة، وهي رأي الأغلبية، وما أولئك في الشوراع إلا مجاهدون صامدون تقدميون مظلومون قادة رواداً مصلحون " فليس لأحد أن يعارض هذا المد، إلا أن يكون من شياطين النظام، أو متخلفاً، أو بلطجياً، أو حاقداً، أو عميلاً أو غبياً." ليس من المهم بعد ذلك أي كلمة نختار، وأي صورة ننقل، مادام كل ذلك لدعم "الثورة"..... وما ضير الكذب والتلفيق والتهويل إذا كنا في جانب "الثورة".
شيطان الثورة يريدها "خلافة إسلامية" على هواه، وكما يراها هو، فالحق هو الله وكلمة الله لم تنزل إلا عليه فهدته إلى الحق، فماذا على بقية "الخلق"؟ عليهم أتباع شيطان الثورة الذي يهديهم إلى الله. إن الطريق إلى الله، كما يقول شيطان الثورة، يمر عبر التضحية، والموت هنا طريق مفتوح إلى الجنة، فقد ملك الشيطان مفاتيحها.
شيطان الثورة لا يريد حلاً أو حواراً، يريد حسماً! فكيف يمكن التحاور مع شيطان الحكومة، فالشياطين لا يمكن أن تتفق على شيء. شيطان الثورة الذي يمتلك "الحق المطلق" و "الحقيقة الكاملة" ليس بحاجة لوسطاء وعرابين، فالحق بيده ناصع، وهو ليس بحاجة لوضع الحجج ولا اتخاذ سبيل لإنقاذ الناس، فذلك على الله، أما هو فيكفيه أنه لن يتخلى عن مطلبه.
شيطان الثورة لا يريداً علياً، ولا يريد من يؤيده أو حتى يتعاطف معه، هؤلاء يجب أن "يحاسبوا" و "يحاكموا" حتى ولو مثلوا أغلبية الشعب، فالمسألة ليس مسألة "ديمقراطية". شيطان الثورة وعد بإستقدام "ملائكة مطهرين" يحاكموا هؤلاء حتى ولو بلغوا الملايين، فالعدل لا بد أن يسود، ومعياره لدى الشيطان، حتى لو كان الحاكم ملاكاً.
شيطان الثورة لا يريد إنتخابات، ولا مراوغات، يريد فقط أن يرحل النظام فيقوم هو بالحلول مكانه. لقد وعد الشيطان أن يقسم "الكعكة" بالعدل، فالإشتراكيون سيحصلون على دولتهم المدنية، والإصلاحيون سينشئون خلافتهم، والناصريون سيتمتعون بقوميتهم، والحوثيون سيتبعون إمامهم، بل إن الحراكيون سيأخذون حقوقهم.... أما سواهم فهم من النظام وليس لهم شيء.

شيطان الحكومة:
شيطان الحكومة متمسك بالحكم، لا يريد ان يتركه. استساغ عقوداً من السيطرة تمكن خلالها من إدارة الأمور كما يراها. إستخدم أساليباً مشروعة وغير مشروعة لتدعيم سلطته وتقوية مكانته. كان الفساد والإفساد وسيلته، وكان الفاسدون والمتنفذون رجاله. قلما أستمع لنصح، وقلما سعى لإصلاح.
شيطان الحكومة أستخدم كل الأساليب لكسب الإنتخابات، وزع الاموال، أخاف الناس، واستغل الجهل فحقق غايته ومبتغاه. لم ير يوماً في نظام الحكم سوى صورة يستخدمها لتحقيق أغراضه. لم يؤمن يوماً بالديمقراطية التي أسس لها، بل أستغلها ليستمر في حكمه، وليقدم للعالم صورة مشرقة لنفسه.
شيطان الحكومة يعتمد على الفساد، فالنفط يباع دون رقيب، والغاز لم يسلم الفساد فبيع بأقل من ثمنه، والأموال العامة تهدر لك يوم. المناقصات تخضع للمحسوبيات، والمتنفذون يحصلون على ما يريدون.
شيطان الحكومة يستخدم الأقارب والأصحاب والمقربون، يمكنهم من زمام الأمور، ثم يدعهم يسيطرون ويعبثون كما يشاءون. الولاء هو المؤهل اللازم، وهو المعيار الذي يوصل الناس إلى المناصب.
شيطان الحكومة لا يريد تغيير شخص، ولا مسئول مادام يثبت كل يوم ولاءه لها، وتمسكه بمنصبه. لا يهم بعد ذلك إن كان فاسداً أو ظهر ما ظهر عنه....
شيطان الحكومة يريد أن يبقى الامر كما هو، فالتغيير قد يفتح أعين الناس على مستقبل لن يتمكن شياطين الحكومة من تحقيقه. شيطان الحكومة يريد أن يظل الناس مغمضي الأعين، يعيشون للوصول لحاجاتهم اليومية فحسب.
شيطان الحكومة لا يرى ظيراً في تجنيد الموالين له سواء كانوا من القبائل أو من غيرهم، ماداموا سيخدمون أهدافه، ولا يرى مشكلة في إثارة فتنه تخرجه من مأزق، ولا يرى أن ترك الناس تدير شئونها بأنفسها سيضر بمصالحهم ويسلط القوي منهم على الضعيف.
شيطان الحكومة يستخدم رجال الأمن "بعصيهم" للتمويه، ويسعى في نفس الوقت لقتل "المتظاهرين" لأنهم يعارضونه.
شيطان الحكومة يراوغ ويماطل في الخروج من هذه الأزمة لأن ذلك يعني أن يغلبه شيطان الثورة.......

فمن أي الشياطين أنت؟

الجمعة، 23 سبتمبر 2011

نيران الفرحة.. ونيران الألم

نيران الفرحة ونيران الألم
في اليمن قد لا تختلف طقوس الفرح عن طقوس الحزن كثيراً، على الأقل من وجهة نظر الآخر، فمن يدخل مجلساً للقات قد لا يعرف لبعض الوقت ماهية هذا المجلس، فمجلس العزاء ومجلس العرس لا يختلفان، بل وعلى المرء أن يتمعن في كلمات المنشد قبل أن يقرر ما إذا كان مجلس فرح أو حزن.
يقوم اليمنيون، ككثير من الشعوب، بالتعبير عن الفرحة بإطلاق النار في الهواء، وهي عادة قديمة جديدة، وقد أنحسرت كثيراً منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى بداية الأزمة في بداية العام الحالي. كانت التظاهرة التي قام بها اليمنيون قبل حوالي ثلاثة شهور عندما تنوقلت الأخبار عن شفاء الرئيس مفاجئة، فقد أعادت للواجهة هذا النوع من الطقوس الذي كاد أن يختفي. ونظراً لضعف الدولة عمل الناس على إحياء هذه الطقوس فأصبحت من جديد تقليداً في المناسبات السعيدة يحرص الناس على أتباعه. لقد لاقى الأمر استهجاناً من عدد كبير من اليمنيين نظراً لما يسببه الأمر من أذى للآخرين قد يصل لتهديد حياتهم، لكنه مع ذلك استمر وتكرر.
صباح هذا اليوم، الجمعة – 23 سبتمبر 2011م أفاق الناس على أصوات النيران تملأ أذانهم، وكان أكبر من أن يتجاهله حتى أولئك الذين تعودوا على أصوات النيران. اعتقد الكثيرون أن "الحرب القائمة" قد توسعت، ولكن المتأنون عرفوا بأن الأمر لا يعدو أن يكون مظهراً من مظاهر الفرح، والمناسبة كانت مفاجأة للكثيرين وهي عودة الرئيس من رحلة العلاج التي أعقبت حادث جامع النهدين.
نيران الفرح هذه والتي تكررت بشكل أكبر مساء الجمعة إختلطت بنيران الألم التي أنطلقت إثر تهديدات "التصعيد الثوري" التي أطلقها العديد من قيادات "الثورة" من شباب وقيادات عسكرية وغير عسكرية. تلك النيران أحرقت الكثيرين، لكنها أهم ما أحرقته هي توحد اليمنيين ومعيشتهم المشتركة التي تتحول يوماً بعد يوم إلى تاريخ نخشى أن نفتقده.
ما أسعدنا بنيران "الفرحة" إذا ما قارنها بنيران الألم التي أنطلقت منذ أيام. نيران الفرحة قد تترك ضحايا بالخطأ، لكن نيران الألم لا بد أن تترك ضحايا وجروحاً لا تندمل. نيران الفرحة قد تجنبنا الكثير من نيران الألم، فالنار تنطلق للسماء.
الليلة تختلط النيران، فلم نعد نستبين أنيران فرحة أم ألم!
مازال الأمل قائماً، ومازلنا ننتظر!

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

خواطر العيد

خواطر العيد
بالأمس كان السفر في فترة العيد ترفاً، وكان الأختيار ما بين المكوث في صنعاء بين الأهل وبين ترك كل ذلك من أجل قضاء بعض الوقت على الشاطئ أو للتعرف على مناطق جديدة، كان ذلك الأختيار صعباً، خاصة في شهر رمضان حيث يكون معظم الأهل في صنعاء.
أما اليوم فإن المكوث في صنعاء لم يصبح خياراً، فصنعاء تخنقها الشائعات، ويقض مضجع سكانها إنتظار، فمنهم من ينتظر أن "يرحل نظام" ومنهم من ينتظر عودة الرئيس، وبين هذا وذاك منهم من ينتظر النهاية فقد تحولت حياتنا إلى "مسلسل مكسيكي" طويل له بداية وليس له نهاية، كما وصفها أحدهم.
بالأمس كان السفر براً، وكان الأختيار يعتمد على الجو، والرغبة في التعرف، توفر الفنادق والمرافق، وكان البحر دوماً يغلب على خياراتنا. بالأمس كان قرار السفر يتم ليلاً ولا يبقى الكثير للتفكير فيه. بالأمس كان السفر يغطي مناطق متعددة، من الحديدة، إلى المخا وتعز والعدين، وإب وذمار، كان إلى تعز وعدن وإب و... أينما شئت.
أما اليوم فإين تتجه، هل إلى الشرق حيث قطاع الطرق، أم إلى الجنوب حيث لا طريق تأمنه، هل إلى الغرب حيث القلاقل، أم إلى الشمال؟ اليوم لا بد أن تأخذ حذرك، ويجب أن تحسب حساب كل خطوة، فإن أطمأنيت فلا بد أن تأخذ في الحسبان إحتمال تعطلك بسبب عدم توفر الوقود أو بسبب إغلاق الطريق من قبل الشيخ فلان أوعلان..
بالأمس كان السفر متعة تنغصة، أو قل تزين جماله الطرق التي تفتقر للصيانة والإرشادات، وأحيانا المطبات والحفر، واليوم لم نعد نعير تلك الأمور بالاً...... بالأمس كنا أثناء تنقلات العيد ننتبه للمطب والحفرة، نأسف لعدم وجود لوحة ترشد لأتجاه الطريق أو إسم المنطقة التي نعبرها، ونتمنى ألا نرى المخلفات البلاستيكية التي تغطي الأشجار وكأنها تخنقها. كان يؤلمنا عدم الإهتمام بوضع اللوحات الإرشادية حول الطرق التي يتم توسيعها أو صيانتها، وكنا كثيراً ما نرى ضحايا الحوادث الناتجة عن ذلك.....
في عيدنا هذا كان السفر جواً، إضطراراً لا رغبة، أصبح السفر براً ضرباً من الجنون والمغامرة التي قد تتحملها أنت، لكنك لا تريد أن تحملها أطفالاً لا يعوا من الدنيا كثيراً. مسافرون على الطريق يتعرضون لمخاطر كثيرة، في زمن قررت الحكومة فيه تجنب الصدام، متخلية بذلك عن أحد أهم وظائفها في حفظ الأمن. قبائل ورجال تخلوا بدورهم عن أبسط الأخلاقيات فأصبحت كمسافر رهناً ل"مزاج" لا تأمن تقبله، ولأعتبارات قد لا تفهما. فنوع السيارة قد يؤثر في قرارهم الإعتداء عليك، مثلما قد يؤثر على ذلك ربما إتجاهك السياسي أو ربما قناعاتك الدينية أو غيرها.....

المكلا
ووصلنا إلى المكلا، بعيداً عن مركز الأحداث في صنعاء. لم تكن السعيدة في مستوى النظافة المرجو، لعله يوم العيد!.... وصلنا والجو فيها ليس حاراً كما عهدناه، سعدنا أخيراً بهدؤ افتقدناه في صنعاء، حتى نقاط التفتيش التي واجهناها في رحلتنا إلى المدينة كانت خالية، فيبدو أن العيد قد قلل من حدة التوتر هنا...
استقبلنا البحر بالترحاب، وقضينا ساعات، بعيداً عن كل شيء، وكنا على موعد مع وسط المدينة، وبالتحديد بقرب البحر حيث نصبت بضع خيام، بدت خاوية.. وهذه "ساحة التغيير".... قيل أنها كانت تزخر بالمزيد من الناس فيما مضى أما الآن فقد فرغت، وقبل أن ندخل إلى تلك المنطقة قيل لنا أن الشارع الذي عبرناه كان قد فتح منذ عدة أيام بعد أن أحتلته جماعة من "الحراك الجنوبي".... المدينة هادئة لا جنود ولا سلاح... برغم كل شيء شعرنا بالارتياح.....
الحياة تسير بشكل "طبيعي" في المكلا. الناس يتجولون، وبأستثناء بعض نقاط التفتيش على الأطراف فإن المدينة تكاد لا تختلف عما عرفناها سابقاً. المكلا تعيش زمناً جميلاً، حيث يبدو أن الحياة فيها تزدهر، البناء في كل زاوية، والأحياء تشهد تطوراً..... وكأن أبناء المكلا قرروا أن يعيشوا حياتهم بعيداً عن تعقيدات "صنعاء"...
شواطئ المكلا الساحرة ظلت تجذبنا، مثلما تجذب أهل المكلا لأيام. رمال ذهبية ومياه تخفف من حرارة الشمس، وأمواج تزيد من متعة مرتادي البحر.
سيئون من جديد
رحلة استمرت عدة ساعات، تبدأ بارتياد الهضبة المجاورة للمكلا، وهو أمر لا يخلو من متعة النظر إلى طبيعة مختلفة، تكوينات رسوبية مميزة وجبال جرداء، وكان من حظنا وجود تجمعات للمياه حيث هطلت الأمطار قبل أيام قلائل، وقد عجبنا من تكوين الطريق الذي لم يأخذ بمعايير السلامة من حيث الرؤية، ومما أسفنا له أيضاً عدم وجود أية لوحات إرشادية، فيبدو أن أحداً قد سطا عليها جميعاً، واستمر الحال طوال الطريق، وقد عانينا من ذلك خاصة عند حلول الظلام، وقضينا بعض الوقت على الطريق بحثاً عن "سيئون"، حيث لم نجد من نسأله على الأتجاه، وتلك طبيعة تختلف عما نجده في مناطق أخرى حيث تجد المحلات والسكان.
الكثير يميز وادي حضرموت، فمن غابات النخيل الساحرة في وادي دوعن حيث هبطنا في الوادي، إلى المباني الطينية الجميلة والتي أكتسى بعضها حللاً ساحرة من الألوان، إلى الجو الذي يتصف بالجفاف الشديد، ولا يخلو من حرارة تلفح الوجه، ولكن ما خفف علينا حرارة الجو تفكيرنا بمسابح الوادي المنتشرة والتي استطاعت امتاعنا بساعات من السباحة التي لا تملها.
قيل لنا كان هنا "ساحة التغيير" وبأستثناء ذلك بدت المدينة مثلها مثل المكلا غير عابئة بما يحدث في صنعاء. كانت بعض الشعارات قد طالعتنا منذ دخلنا الوادي وهي شعارات "تغيير"، ولا يخلو بعضها من شعارات ضد "الاستعمار اليمني" كما ذكر، وأعلام "لجمهورية اليمن" السابقة.
سيئون تطورت، شوارعها أخذت من المدنية الحديثة الكثير، حتى تكاد تقضى على تميزها، وأضيئت المدينة بأنوار كثيرة..... ومثل بقية وادي حضرموت ظهرت الطريق السريعة تجاورها. سيئون الهادئة أصبحت تعج بالناس، المحلات التجارية والمتسوقون يملؤون الشوارع بعد أن كانت خالية، وبعد أن كان سوق البلدية هو الوحيد.
قصر سيئون مازال علامتها المميزة، واقفاً على حاله. تاريخه يحكي تاريخ مدينة، ومازالت وظيفته كمتحف قائمة. رأينا أن المتحف قد تطور بعض الشيء، زاد ترتيبه وتم ترميم بعض الأجزاء، غير أن بقية القصر بقيت مغلقة "لحاجتها للترميم".....

تريم
عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2010م.... شوارع معبدة مضاءة، بدت المدينة وقد أكتست أيضاً حلة عصرية بعد أن كانت مهملة. منارة المحضار الطينية الشهيرة كانت مقصدنا، وعرجنا على مكتبة الأحقاف التي تزخر بأكثر من 6000 مخطوطة، وبالرغم من أننا لحظنا وجود عدد كبير من المطاعم، إلا أنها كانت مغلقة وقد قيل لنا أنها ستفتح عقب فترة "الست البيض"، لذا فقد لجأنا إلى ظلال الأشجار لتناول وجبة الغداء بعد أن علمنا أن فندق قصر القبة قد أغلق نهائياً، وقد كان الفندق مقصداً للسواح والزائرين... قصور تريم الشهيرة رممت لتبدو في حلة بهية، وبدا أنها مثل سيئون أصبحت لا تعبأ بقيض النهار فالناس يسيرون تحت الشمس وفي منتصف النهار، والمحلات تفتح أبوابها.
ساحة التغيير في تريم، رأيت منها خيمتين أثنتين، ولم يكن هناك من يمكن التحدث إليه. كانت اللافتات والأعلام تملأ الفضاء، لكن غابت الروح البشرية إلا من الناظرين.

لا بد من صنعاء
بعيداً عن حضرموت وهدوئها، حيث بدت وكأنها عالم آخر لا يعبأ بما يحدث حولها، عاشت صنعاء أياماً عصيبة خلال فترة العيد، فسكانها كانوا يتوجسون، ينتظرون "الحسم الثوري" تارة و "التصعيد الثوري" أخرى، يستمعون للتهديد والوعيد، وبأستثناء الشائعات التي أرقت السكان، وبأسثناء إطفاءات مطولة للكهرباء على غير العادة، فقد ظلت المدينة على حالها، واستمرت الشائعات تأكل في أرواح الناس... عدنا إلى صنعاء التي بدت هادئة "اكثر من اللازم" وكأنها تنتظر شيئاً ما. قوات الجيش والأمن مازالت في الشارع كما رأيناها، ورجال من القبائل تتمترس في مناطق بعينها، صنعاء مازالت تنتظر، ولم تستطع حتى الآن أن تحسم أمرها وتحتج عما يحدث لها.

السعيدة تعاني
السعيدة التي وفرت لنا إمكانية الأنتقال في هذه الظروف تعاني، ربما مثل مسميتها، فموظفو المطار لم يبد عليهم الإهتمام بالمسافرين، التأخير لم ينتج عنه حتى إعتذار لن يكلف شيئاً، والمضيفين لم يكونوا استثناء، كانوا كمن يؤدون عملهم عنوة، وبدت الطائرة متسخة مهملة..... وكأن حالها لا بد أن يذكرنا بأننا لم نغادر أرض السعيدة.

(نظراً لسوء الكهرباء سأقوم بمشاركتكم ببعض الصور لاحقاً)