الأحد، 2 نوفمبر 2014

رحلة عيون سردد (5): تأملات أخيرة


 

رحلة عيون سردد (5): تأملات

أيام قلائل من السفر ومشقته، أيام قلائل من الخروج عن المألوف، أيام من عشق الطبيعة وتحديها، أيام من العمر قلما تتكرر، وفي الوضع الذي نعيش فيه رأى الكثيرون أن ما قمنا به هو ضرب من الجنون.  يقولون ألا تعلمون ما يحدث في البلاد، ألا تعون أنكم تخاطرون بحياتكم بخروجكم في وقت يرفع كل يمني سلاحة منتظراً أن يدافع عن نفسه، إن لم يكن في سبيل تحقيق مكاسب مزعومة، الا تدرون ألا نظام ولا دولة ستحميكم، ألم يصل إليكم التوحش الذي وصل إليه الناس في المدينة، فما بالكم في الأرياف الأكثر فقراً، ألا تخشون هذا كله؟

لا أحد منا ينكر أن كل تلك الوساوس قد دارت بخلد كل واحد فينا، حتى كادت في لحظات أن تفتك بعزيمتنا، ولكن يبدو أن اتصالنا ببعضنا كمجموعة قد غلب تلك المخاوف، فوجدنا أنفسنا على رغم كل شيء نتجه في وقت مبكر من الجمعة إلى نقطة اللقاء.  لم نكن على أتم الاستعداد كما يجب أن نكون، لعل كل منا كان يتوقع ألا تتحقق تلك الرحلة حتى وجد نفسه، مثلي، فجأة في طريقه إليها.

خرجنا عن المألوف في وقت يؤثر أغلبية الناس البقاء في بيوتهم.  أخذتنا المغامرة في أتون المخاطرة بكل شيء، ولحسن الحظ فقط، وبتوفيق من الله أكملنا رحلتنا دونما أية خسائر.  مخاطر الطريق، ومخاطر النوم في العراء دون أي تجهيز، مخاطر مواجهة الوحوش ومعروف وجودها في وادي سردد، ومخاطر السير في وسط المياه الجارية والنزول فيها، ومخاطر مواجهة أي معتدي، جميعها بدت سهلة بسيطة ونحن ننتقل ضمن وادي سردد الذي كان بمثابة طريق مجهول لكنه شيق، وكأننا نلعب إحدى العاب الفيديو الممتعة....

أصبحت الرحلة سريعاً كالحلم الجميل، ولا ابالغ أننا كلما انتقلنا من مكان لآخر، وكلما خطونا خطوة للأمام نحس بالمتعة فيها والشوق لها، ونفتقد المكان الذي غادرناه.  قلما يراودك إحساس كهذا....

بداية الرحلة إمتلأت ليس بحديث الهموم ومعاناته فحسب، كانت بداية وضعتنا في الواقع المر، ونهايتها كانت مثل البداية لم نستطع أن نتجنب فيها المرور بنقاط المسلحين الكثيرة جداً، ولم نستطع إلا الحديث عن كل ذلك، وبدت الرحلة في الوسط كمن يخرج عن إطار المألوف ليعيش حلماً قصيراً، لكنه حلم صنعناه بأيدينا، قررنا فيه أن نحول كل شيء إلى فكاهة ومتعة، نتذكر أغاني الحارثي وأيوب، كما نتذكر "حبيبت محمد جمال" و "الدكان" وووو أشياء كثيرة .....، حلم سنظل نتذكره ونشتاق إليه لوقت طويل، وهذا عزاؤنا في هذا الزمن.
 

رحلة عيون سردد (4): البداية


رحلة عيون سردد (4): البداية

لم يرحل الليل كما نعتاده، بل تحولت السماء من اللون الأزرق الداكن المرصع باللالئ تدريجياً للون الرمادي، وبدأت المساحات السوداء من الجبال تفصح عن مزيد من التفاصيل.  كان الفجر يشق طريقه، بينما كنا مازلنا نغط في أحلام الليل.  بقوة شق الضوء طريقه ليفصح عن تفاصيل جديدة تملأ المكان، وكأننا نراها لأول مرة.

سرعان ما جمعنا أمتعتنا على ظهورنا وبعد وداع قصير أصر فيه حيدرة أن يلعب دور الأعرابي الذي لم نجده إلا على صفحات الكتب، غادرنا المكان بعد أن اعطانا ما يمكننا من التواصل معه، وتمنى لنا رحلة موفقة.  كان النشاط يملأؤنا بالرغم من أنه اليوم الثالث من مشقة السفر.  سرنا كالعادة وسط المياه وكان دفئها يمتعنا في هذا الوقت المبكر.  بعد حوالي ساعة وجدنا مساحة من الرمال الساحرة، كانت تدعونا لأخذ قسط من الراحة وتناول الفطور، ولم نستطع إلا تلبية دعوتها.  ومثل كل مكان مررنا به لم نستطع مبارحته إلا بصعوبة فقد كان مرحباً ومضيافاً ككل شيء.

سرنا بعدها جادين ونحن نحس بالشوق للوصول للحمام، سرنا مسافات طويلة وجدنا في طريقنا بضع أشخاص وكنا نسأل عن المكان وهم يسألون عن من أين جئنا وإلى أين سنذهب.  كان هناك قرية واحدة علمنا أن اسمها قرية شيعة وقد مررنا بتفرعات للوادي الأول باب مخد يفصل بين الحيمة والمحويت ثم باب دايان بين المحويت وحراز والحيمة وقرية عصمان قبل الحمام.

وصلنا أخيراً للحمام!  لم يكن سوى غرفتين صغيرتين، علمنا فيما بعد أنهما دكان ومكان مهجور، فموسم الحمام لم يبدأ بعد، والناس الذين وجدناهم لم يكونوا سوى مجموعة واحدة جاءت من الحيمة في مغامرة للاستمتاع بالحمام.  شعرنا بنوع من خيبة الأمل بالرغم من وصولنا لمقصدنا، فيبدو ألا مياه ساخنة كما سمعنا وبدت الرمال على جانب السائلة باردة. 

سرعان ما أخذ بعضنا يلهو بالرمال ويجدها فرصة لتغطية نفسه بها.  كان هناك عدد من الناس ولديهم أدوات للحفر فساعدوا في تغطينا بالرمال، وهم يتساءلون في جدوى ذلك، وأي فائدة ترجى منه، ولم يلبث عدد منهم أن غطى نفسه بالرمال بعد أن ساعدنا على ذلك.

لحسن الحظ أن المجموعة التي وصلنا وفي في المنطقة قد سبقتنا إليها، فقد قامت بتجهيز مغطس صغير في وسط السائلة باستخدام ادوات أحضرتها معها، ولم يكن لدينا أدوات يمكن أن نتسخدمها لحفر بقعة أخرى.  إذن فقد اكتشفنا أن هناك مياه ساخنة فعلاً، وبأن تلك الحفرة مليئة بها. 

سرنا على المياه الباردة ولم نكن نعي أن مياه المغطس ستكون بتلك الحرارة العالية، كانت مفاجأة فعلاً، اربكتنا، فسارع بعضنا بالصياح والهرب بعد أن احس بحرارة المياه.  لقد كان شيئاً استثنائياً، ها هي مياه الحفرة الشديدة الحرارة تقع في طرف المياه الباردة التي تتدفق من أعلى الوادي.  تستخدم المياه البادرة المتدفقة في تعديل حرارة المياه داخل المغطس، عبر ساقية صغيرة.

بحثنا عن مصدر المياه الحارة فلم نجد إلا فقاعات تأتي من قاع المغطس.  تمكن البعض منا من الدخول للمياه ولم نكن نعي في بداية الأمر أن الحرارة ناتجة عن سخونة الاجحار وليس عن سخونة المياه نفسها.  استمتعنا كثيراً بالمياه وكان الانتقال ما بين المغطس الساخن ومياه الوادي الباردة الغزيرة والمتدفقة تجربة فريدة وممتعة.  ما زاد من حيرتنا أننا اكتشفنا أن اسفل مياه الوادي المتدفقة مياه ساخنة ما أن تضع أصابعك بين الرمال والأحجار حتى تلسعك حرارتها.

لقد كان الحمام بمياهه الباردة المتدفقة، ومياهه الحارة الآتية من الأسفل تجربة تستحق أن نبقى للأستمتاع بها، لكننا الوقت كان يداهمنا، ولم نجد بداً من حزم أمتعتنا مجدداً في رحلة العودة التي كنا نعلم أنها ستأخذ عدة ساعات.  دعانا  "اصحاب الحيمة" إلى التأني وإلى تناول الغداء معهم، ولكننا لم نتمكن الحصول على سيارة لتقلنا في رحلة العودة، لذا آثارنا حث الخطى عائدين لوادي دايه الذي يفترض أن يوصلنا لمنطقة بني منصور على طريق الحديدة صنعاء.

أكثر من أربع ساعات قصيناها ونحن نسير عكس اتجاه الوادي والمياه، استمر مسيرنا في وادي دايه ونحن نأمل الوصول إلى وادي يباس، وهو مثل اسمه لا توجد به مياه، وكان مجرد ذكر أسمه يشعرنا بالتعب.  بدأنا نفكر في تناول الغداء، أو أخذ أستراحة، وبينما نحن نمر في وسط المياه التي كانت أقل غزارة، وحيث اكتسى جانبيها بألوان خضراء بهيجة من الطحالب، يتبعها على الجانبين اشجار الحلال – المعروفة عند البعض باليرع، ثم مزارع بعضها تطل عليه قرى صغيرة، بدأنا نلتقي بأناس بدا عليها سحنة تهامية أكثر.

شاهدنا أول سيارة، وكانت مفاجأة لنا، كانت تدخل من السائلة بين أشجار الحلال وإلى المزارع التي كانت باللون البني الداكن جاهزة للبذور.  واصلنا مسيرنا ونحن نأمل أن نجد سيارة تسير بإتجاه سيرنا، وبينما تمنى أحد الأصدقاء أن تعود هذه السيارة وتقلنا، وحمله خياله لتأليف قصة ما سيواجهه صاحب السيارة من زوجته التي ستطلب منه الحلوى وبأنه سيضطر للخروج مجدداً وسيقلنا إلى مقصدنا، وسيوفر قيمة الحلوى ومصاريف الوقود! 

لم تمر دقائق إلا وصوت السيارة يأتي من خلفنا.  لقد صدق حدس صاحبنا، وبإشارة منا توقف صاحب السيارة لنعلو مؤخرتها ونحن نشعر بشيء من الغبطة.  كنا قد طلبنا منه أن يوصلنا لوادي "يباس" وهو كما قيل لنا الطريق الذي سيوصلنا إلى بني منصور.  ونحن على ظهر السيارة ثم الحديث مع صاحب السيارة الذي وافق على أن يقلنا لمقصدنا، وقد أحسنا صنعاً بذلك حيث أخذت السيارة أكثر من ساعة ونصف قبل أن تصل.

ترجلنا السيارة وكان صاحبها قد تواصل مع صديق له ليقلنا إلى صنعاء.  تفاجأنا من تصرفه، ولكننا قبلنا ذلك بعد أن أشعرناه بأننا بحاجة للراحة وتناول الغداء، ووافق على ذلك.  في نقطة وصولنا كان هناك جامع رأينا أن نؤدي فيه الصلاة، وسرعان ما أعادنا الجامع إلى هموم المدينة، فما أن ولجنا الجامع حتى وجدنا "صرخة الحوثي" تكاد تغطي على كل شيء داخل الجامع.

في الطريق وكالعادة سرعان من أخذت السياسة طريقها لحديثنا.  علمنا منه أن أبناء الحيمة قد أتفقوا مع الحوثي على عدم دخول بلادهم، على أن يؤمنوا له الطريق، أما أبناء بني مطر فقد سلموا للحوثي بلادهم وأقام فيها رجاله ونقاطه.  كان سائق السيارة ساخطاً من تواطؤ قوات الجيش مع الحوثيين وقيامها بمساعدتهم. 

أنتهت رحلتنا سريعاً في عَصِر عند حلول المغرب، وكانت البداية. 
 

 

الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

رحلة عيون سردد (3): وادي الضَيق:


رحلة عيون سردد (3): وادي الضَيق:

كانت ليلة استثنائية على رمال الوادي الناعمة، وحيث كانت النجوم متلألئة والسماء صافية.  وما أن تفتحت عيوننا حتى وجدنا أنفسنا في الماء، عند الفجر.  تناولنا فطورنا مع القهوة في النبع لم يكن أحد مستعداً لمغادرة المكان، واستمتعنا لسويعات كانت تمر بأسرع مما كنا نرغب.  بدأت الأسماك تصحو وتدغدغنا، لكن الخطة كانت تقول بأن علينا مواصلة الرحلة، ولكن لم يكن منا من يرغب في مغادرة المكان.  بعد تلكوء زاد على الساعة قمنا بحزم أمتعنا لنواصل المسير.

كان الوادي قد خلا من الناس بعد مغادرة العائلة التي كانت على البعد.  تحركنا أخيراً وفي أذهاننا الوصول للماء البارد، حيث علمنا أن مياه سردد تنبع من جهتي الجبل، المياه الحامية كما تسمى "وهي في الواقع فاترة"  حيث قضينا يومنا، أما في الجانب الآخر من الجبل فتنبع المياه الباردة، ليلتقي النبعان في الوادي على بعد أكثر من كيلومتر.  كان يشغلنا ايضاً التحدي الذي سنواجهه في أجتياز الوادي والصعوبات التي تتطلب مهارة خاصة وقوة.

وصلنا بسهولة لملتقى النهرين الحامي والبارد.  إختبرنا الجزء البارد فوجدنا المياه فعلا أكثر برودة.  أخذنا قسطنا من الإنتعاش في المياه الباردة، وواصلنا سيرنا.  كان السير في أغلبه في مياه الوادي، وقد حاول بعض الزملاء تجنب المياه عبر المرور في جانبي الوادي، لكنهم سرعان ما أدركوا عدم جدوى ذلك.  سرنا في طريق ملتوية نتلمس السهل، بينما المياه متدفقة بغزارة.  بدأت الشلالات تظهر، ونحن نحاول التحايل عليها....

كلما تقدمنا كلما كان الوادي يضيق، وتزداد صعوبة الحركة مع زيادة حجم الصخور وانعدام الطرق البديلة على جانبي الوادي الذي بدا أكثر وعورة.  بينما نحن نبحث عن وسيلة لتخطي أحد العقبات إلا ونحن نشاهد هذا الرجل التهامي بسحنته، والذي يرتدي ظلوله.  يحيى سليمان، عرفناه وبسهولة أندمج مع مجموعتنا وشرع في مساعدتنا بحمل بعض الأمتعة.  بدأ بمساعدتنا على تجاوز العقبات، ووصلنا ل "خزنة الجن" التي بدت صخرة سوداء صلبة تختفي في تنيات الصخور على جانب الوادي الأيمن.  أصر يحيى أن يرينا أياها مؤكداً أن تحوي نفائس الجن، وبأن هناك من حاول فتحها خاصة الرجل "الهولندي" الذي أتي بمعدات لفتحها لكنه مع ذلك لم يتمكن.  شاهدنا "الخزنة" وأثار تبين أن أحداً حاول فعلاً الحفر على جانبها.

بعد الخزنة ضاقت الطريق بشكل عجيب ووجدنا انفسنا أمام شلال كبير يستحيل عبوره، بينما كان جانبا الوادي من الصخر الصلب الأملس، وخلنا أنفسنا وصلنا لنهاية الطريق، فإذا سليمان يدلنا على فتحة صغيرة بين الصخور، كانت هي المخرج الوحيد، حيث تمكنا بصعوبة من الدخول عبرها للأسفل، وكان لزاماً علينا أن نقفز إلى الماء، وهنا كانت مساعدة يحيى ضرورية لتجنب ابتلال الامتعة بالماء.

علمنا أن هذه المنطقة من الوادي تسمى "الضيق" بفتح الضاء، وهي تدل فعلاً على صفة الوادي الوعرة والفريدة، أما الوادي الذي تنبع منه العيون فإسمه وادي داعر، وهكذا فكل قسم من الوادي يتميز بإسم خاص به.  واصلنا مسيرنا وتجاوزنا مناطق صعبة جديدة إلى أن وصلنا لمتسع في الوادي، وتحت شجرة حطينا رحالنا في إستراحة، ودعنا فيها يحيى.  يحيى كان عاملاً اساسياً في عبورنا المناطق الصعبة في الوادي، ولولاه لا ندري كيف كنا سنتجاوز هذا التحدي.  أبدينا له شكرنا وامتناننا قبل أن يغادرنا عائداً، ولم نفكر حينها كيف سيتمكن من العودة في تلك المناطق الصعبة، لكننا كنا نشعر أن الحظ كان حليفنا.

إستمر مسيرنا بعدها وواجهنا مناطق صعبة، لكنها لم تكن بنفس صعوبة المناطق التي سبقتها، وكان مسيرنا في أغلبه في الماء، ومياه الوادي تتدفق بغزارة.  كان هدفنا التالي هو "الدكان".  لم يكن هناك أناس في طريقنا حتى عندما بدأنا نرى بعض المزارع البسيطة على جانبي الوادي لم نشاهد أحداً، لكن مع تقدمنا التقينا ببعض الناس الذين ابدوا استغرابهم من هذا الجمع الذي يسير في الوادي.  كان سؤالنا عن الدكان، وكان الدكان هو المعلم الأكثر شهرة في المنطقة.  سألنا أيضاً عن حمام سردد حيث أشار البعض إلى ان الحمام الآن به أماكن للنوم ودكان يمكن التزود منه ببعض الحاجيات. 

توقفنا على جانب الوادي واخذنا نصيبنا من الغداء قبل أن نواصل المسيرة في الوادي.  بالرغم من كل المشقة فإننا كنا نشعر دوماص بالنشاط ونحن نعبر المياه من يمين الوادي ليساره جيئة وذهاباً.  وأخيراً وصلنا لمقصدنا.. الدكان...  كنا حينها قد بدأنا نفكر في التوجه مباشرة إلى الحمام للمبيت هناك بناء على ما سمعناه من بعض السكان، ولكننا آثرنا التزود ببعض الماء من الدكان.  كان الدكان في أعلى القرية التي تحتوى على بيتين لا غير.  وصلنا بعصوبة لمقصدنا، وأخذنا بعض العصير المعلب ونحن نتحدث لصاحب الدكان عن رغبتنا في مواصلة السير.

الدكان كان غرفة صغيرة للغاية، تحتوي على ثلاجة وبعض الاغراض، وقد أدهشنا أن العصير كان بارداً وعلمنا أنه يستخدم الغاز في التبريد، كما أن الدكان كان مضاءً، وقد سارع "حيدرة" بالشرح بأنه يستخدم الطاقة الشمسية في الإضاءة.  قال حيدرة بأن الحمام ليس مهيئاً، وبأن موسم الحمام لم يحن بعد وبأن ذهابنا لن يكون له معنى، وعرض علينا الإقامة في غرفة كبيرة نسبياً بجانب الدكان قال أنه انشأها لعابري السبيل، وكان فخوراً بالقول أنه تم المقيل لعرس في نفس الغرفة.

بعد جدال اتفقنا على المبيت ومواصلة السير اليوم التالي صباحاً.  أدخلنا امتعتنا في الغرفة، ونزلنا مجدداً للوادي للوضوء، وبعد الصلاة جلسنا نحضر للعشاء ففوجئنا بصحن من اللبن والخبر البلدي وأبريق شاي يأتينا من إمرأة يبدو أنها زوجة حيدرة.  أستمتعنا بطعم اللبن مع الخبز، وما هي إلا دقائق ونحن نتجهز للنوم.

كان حيدرة وعدد آخر من الرجال والنساء قد أتخذوا جانب الدكان مكاناً للسمر.  كان هناك مصباح مضاء يبدد ظلام الليل الحالك.  واستمر السمر لأكثر من ساعتين بينما جهزنا مكان النوم فمنا من فضل النوم في الغرفة ومنا من أتخذ سطح الغرفة مكاناً للنوم.  كانت ليلة استثنائية حيث لا شيء سوى ظل الجبال الحالك السواد والسماء المليئة بالنجوم وكأنها لوحة مرسومة.
 

 

الرحلة لعيون سردد (2): عيون سردد

سرنا لعدة كيلومترات، سبعتنا، وكل منا يحل على ظهره حقيبة كبيرة.  أنحرفنا بعدها خارج الطريق في سائلة صغيرة.  ما أن سرنا عدة مئات من الأمتار حتى سمعنا مناد "من أنتم؟  أين عتسيروا؟"، كان الأمر مفاجئاً، ولكننا قلنا له ببساطة أننا "رايحين العيون" بينما أستمرينا في طريقنا.

أنعطف بنا الطريق المنحدرة عدة مرات في وادي يضيق تدريجياً.  كان الوادي وعراً ولا توجد به ارض زراعيه، وكلما انخفضنا زادت الأشجار.  لم يكن هناك أثر لأي سكان في المنطقة، وفجأة ومن أعلى الجبل جاء صوت.  استيبنا الأمر فإذا هم سكان في أحد الكهوف.  دعونا للغداء، فأعتذرنا لهم وشكرناهم مؤكدين أننا نحمل طعامنا.

استمر نزولنا لحوالي ساعة حتى وصلنا لنهاية السايلة مع ظهور سفح شاهق، والتقينا عنده بقطيع من الأغنام وراعيين قربها، حييناهما وسألناهما عن مصدر الماء الذي تروى به الأغنام فقالا أن السماء أمطرت قبل عشرين يوماً.  واصلنا مسيرنا في سفح الجبل وظهر على البعد شاهق في  أسفله الوادي وبعض الخضرة، أخيراً: عيون سردد، بدا المنظر يأخذ الأنفاس مع الارتفاع الشاهق والخضرة التي تبدو في البعد.  كان الشوق يدفعنا للمسير بسرعة، ووعورة الطريق والأرتفاع الشاهق يجعلنا أكثر حرصاً.

درنا حول الجبل حيث وجدنا كهفا به أثار للسكن وللأغنام فيما يبدو أنها مساكن لرعاة الأغنام مهجورة حالياً.  كنا نحاول تلمس آثار الطريق التي لم تكن واضحة حتى وصلنا لمنحدر كبير.  رأى قسم منا مواصلة النزول إلى هدفنا الذي بدا أمامنا سهل ممتنع كما يقال، رأى الأخرون تلمس الطريق لقمة الجبل قبل الإنحدار.  واصلت المجموعة الأولى إنحدارها وكانت العيون ماثلة أمامها وتقترب شيئاً فشيئاً. بعد حوالي نصف ساعة وصلت المجموعة الأولى للنبع.

كان الماء صافياً كالزجاج، وتظهر لألئ ملونة من الأحجار واضحة، بينما تتحرك اسماك صغيرة ذهبية وأخرى داكنة اللون.  كان خرير الماء يزيد المنظر بهجة وروعة، كان المياه تتدفق من بين الصخور التي علتها ساقية مغطاة بالأشجار على جانبيها.... شهق الجميع من المفاجأة فها هي الصخور تخفي وراءها شيئاً من الجنة ....بسرعة للدخول في الماء، كانت تجربة مذهلة.  كان الماء فاتراً وكأنه على اتفاق مع حرارة الجو في ظهيرة ذلك اليوم ليكونا ثنائياً رائعاً.

 ساعات قضتها المجموعة في بركة الماء الفاتر، كان الماء أكثر سخونة من الهواء الذي سرعان ما أنخفضت درجة حرارته، فضل الجميع البقاء في الماء، كانت المياه تتدفق زلالاً عذباً، وكانت "عضات" الأسماك تدغدغ الأطراف.  كان السويعات التي قضتها المجموعة في تحضير الطعام كفيلة بزيادة الشوق للعودة إلى أحضان الماء حتى بدأ الظلام يحل.  لم يكن هناك وقت للتفكير في الليل ولا في ترتيبات النوم.  شعر الجميع بطمأنينة عجيبة ونسوا أنهم سيقضون الليل في قاع الوادي دون أي غطاء.  حتى قصة النمر الذي أتى للوادي قبل سنوات لم تكن كفيلة بإثارة الخوف.

أخذت مجموعة قسطاً آخر في نبع الماء على ضوء مصباح صغير، ثم آوت المجموعة للنوم وحينها فقط خطرت في الأذهان مخاوف النوم في العراء.  كان هناك اسرة على البعد قد اتخذت صخوراً ملجأ وعلى البعد اشعلت ناراً كانت كفيلة بإثارة الدفء في النفوس، وذهب الجميع في نوم انتهى مع بدايات فجر جميل، ويوم آخر.

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014


الرحلة لعيون سردد (1): شعب مصملي

(جزء من رحلة من صنعاء لعيون سردد خلال أكتوبر 24-26، 2014) -تابع بقية تفاصيل الرحلة

بعد تفاوض استقلينا سيارة الهيلوكس في فرزة مذبح بإتجاه بيت قطينة.  مائتي ريال يضعها سائق السيارة في يد أحدهم في فرزة المحويت، سألناه ما هذا؟، قال "حق السيد" ثم صمت.  سأله أحدنا: يعني حق الفرزة؟، رد بضيق "لا حق السيد"، يستوضح صاحبنا أكثر، يعني غير حق الفرزة، يرد "أيوه". سأل من أين نحن وما الهدف من ذهابنا لبيت قطينة.  قلنا له بأننا من أماكن مختلفة واننا في زيارة سياحية لوادي سردد.

قال أنه من المحويت، ومع مرورنا من نقاط "الحوثي"  أبدى تأففه، وقال أما نحن في المحويت فقد آمنا برسالة!  سألناه كيف؟  قال بأن "السيد" طلب مشايخ المحويت وبأنهم أعلنوا ولاءهم له، وبذلك "جنبوا المحافظة النزاعات" بعد أن اتفقوا مع "السيد" على ألا يقيم أية نقاط في بلادهم مقابل أن يضمنوا مرور رجاله في أي وقت في المحافظة دون إعتراض وفتح الطرق.

أخرج ملزمة يحتفظ بها تحت مفرش الطلبون قائلاً "هذه ملزمة السيد"، وكانت الملزمة معنونة "لتحذن حذو بني أسرائيل"، قائلاً اقرأوها.  أخذناها نتصفح فيها بينما واصل هو شرحه حول محتواها قائلاً بأن "السيد" منع المرأة من أي عمل وامرها بأن تلزم بيتها، وكان حديثة على وجه الاستهجان لهذا الموقف، واستغربنا نحن من موقفه، ولعله ادرك ذلك فسارع ليشرح لنا أنه خريج جامعة صنعاء قسم المحاسبة.  ونحن نمر بنقاط الحوثي الكثيرة، ومازلنا في محافظة صنعاء، كان يخفض صوت المسجلة قائلاً "هم يمنعون أي غناء إلا أيوب طارش أو الحارثي"، ضحكنا، فأكد علينا وأقسم بأن ذلك صحيح.

مررنا من جديد على نقطة تفتيش أخرى للحوثي في الظفير الجديدة، وشرح لنا كيف أن الحوثيين قد استولوا على ما تبقى من القرية عند دخولهم للمنطقة بعد مواجهات قاع المنقب، وكيف أن الناس في المنطقة كما في المحويت قد استسلموا للقادم الجديد، وكيف قام من كان يقوم بقطع الطريق برفع التقطعات، وأكد على قوله "هذا شعب مصملي".

تشعب بنا الحديث حول وضع البلاد وأبدى معرفة كبيرة محللاً الوضع بأنه يترحم على أيام "علي عبدالله صالح" التي تمكن فيها من شراء سيارته بالتقسيط وسدد جميع الأقساط خلال عام واحد فقط ومع أنه لم يتمكن من الحصول على "وظيفة".  سمير، وهذا هو أسمه قرر أن يترك العمل في القطاع الخاص ليعمل في نقل الركاب بين صنعاء والمحويت يرى بأن عيب علي عبدالله صالح يكمن في أنه ترك الحبل على الغارب للمشائخ لظلم الناس وأضعف الدولة أمام هؤلاء.

دخلنا على منطقة باب الأهجر الشهيرة، بدا المنظر ساحراً، بالرغم من أن الوادي تغير لونه على مر السنين من اللون الأخضر البهيج إلى اللون الداكن، لون شجرة القات.  أشار لسفح الجبل قائلاً "شوفوا هذا بيت سميع.. مسكين ما قدر يشطبه"، وكان المبنى مبنى ضخم من دورين، ثم أشار لمنطقة مرتفعة قائلاً أن بها متنزه حصل خلاف حوله بين أن تديره جمعية تابعة لسميع أو المحافظة، وبذلك أغلق المتنزه الذي أنشأته الدولة كما قال.  قال بأن سميع وبعض المشائخ عارضوا التسليم للحوثي، وأكدوا على أهمية مقاومته لكن كبار المشائخ قالوا بأنه إن من لم يلتحق بهم فإنه يتحمل المسئولية، وبأنهم لن يقدموا له أي مساعدة في المستقبل في حال أحتاج إليها وبأن "الوجه من الوجه ابيض".

أنحرفنا في منطقة بيت قطينة يساراً في طريق مسفلت، لندخل وديان خصبة، وبعض عدة كيلومترات تجازتنا سيارات مدججه بالسلاح، فأشار إلى أنها خاصة بشيخ المنطقة، ثم أشار للظلم الذي يمارسه المشائخ على الناس، مدللاً على كلامه بأن الشيخ "عبداللطيف"، الذي قال أنه كان أكبر مشائخ منطقة بيت قطينة قد اسرف في الظلم حتى أن الناس كانوا يتجنبوا أظهار أية أموال يملكونها، وبأن ظلمه بلغ أنه كان يحكم وينفذ أحكام إعدام آخرها في العام 2013.  عبداللطيف توفي في حادث ليتنفس الناس الصعداء، ويبدأوا بتحسين معيشتهم وبناء بيوت جديدة أشار إليها عند مرورنا، وهو أمر ما كانوا يجرءون عليه في وجوده.

أصر سمير على إيصالنا إلى آخر نقطة ممكنة متجاوزاً بذلك أتفاقنا على أن يوصلنا لنهاية الاسفلت مضفياً كرمه علينا،  أنزلنا أمتعتنا، وشكرناه وتمنينا له التوفيق.
 

الأربعاء، 23 يوليو 2014


ويظل الشرق شرق                                                              نوفمبر 2013

يرى كثير من الشرقيون أن "الغرب" قد ظلمهم واجحف في حقهم، فهو الذي استعمر بلادهم و "أخذ خيراتها"، وبنى حضارته وثراه من هذا "الظلم" الذي ألحقه بهم.  ويحلوا للشرقيين أن يدعو أن سبب كل مشاكلهم ومآسيهم ونزاعاتهم وفقرهم هو "المؤامرة" الغربية التي تعمل على إبقاء الشرق ضعيفاً، ونجد العرب والمسلمين بصفة خاصة أكثر الناس لوماً للغرب ولمؤامرته التي لا تنتهي، لذا يظل الشرق شرقاً، ويظل الغرب غرباً.

يعيش الشرق تحت وطأة جملة من المعتقدات والعادات والتقاليد الإجتماعية التي تكبله، وتجعل تقدمه أمراً في غاية الصعوبة، خاصة إذا ما كان يحاول تمثل الحضارة الغربية ويعمل لنسخها بما في ذلك إنشاء أنظمة حكم "ديمقراطية" تعتمد على الأسس الغربية في الحكم، وبمجرد الملاحظة البسيطة نجد أن "الشرق" فشل في تمثل الحضارة الغربية بكامل مكوناتها، والنجاح الذي نشاهده "اقتصادياً" في اليابان وماليزيا والصين مثلاً مرتبط بالثقافة المحلية، ولم يخرج عنها، وفشل الهند يبدو أنه مرتبط بمحاولتها اتباع نهج الحكم الغربي.

عادات الإنسان في الشرق متشابهة إلى حد كبير، ويبدو أن تكوينه النفسي أيضاً متشابه برغم أختلاف الثقافات، فهناك مكونات مشتركة تكاد تكون الطابع الأغلب لدى الشرقيين، والتعامل يبين الإختلافات بين الشرقي والغربي، وهناك العديد من الأبحاث السلوكية التي حاولت تصنيف البشر، وجل تلك الأبحاث بالطبع غربي المنشأ، ولو استخدمناها لوجدنا من يفندها ويتهم "الغربيين" بالمؤامرة على "الشرق".

التجارب الشخصية تمثل منبعاً غنياً، فأنا في الأصل ممن آمنوا لسنوات بنظرية "المؤامرة"، وكنت أنتقد المنهج "الغربي" في تصنيف الأمور، بحيث يبدو "الغرب" هو المثال، ولم يخطر ببالي حينها أني "سأكفر" يوماً بهذه النظرية، وأصبح "اقرب" للمنهج الغربي، وأنا "العروبي" الذي قضيت سنوات أغني للعروبة، واتغنى بالأمجاد والتاريخ.  اليوم تجاربي الشخصية جعلتني اسقط نظرية المؤامرة، وأفسر فشل "الشرق" وخاصة "العرب" بتفسير آخر......

عملت لسنوات طوال في أعمال عدة، وتعاملت بشكل قريب مع آلاف من البشر، كنت دائماً أعتمد في تعاملي على الوضوح والبساطة، وكنت أتجنب، وأنا الذي عملت كمدير، أن اخلق حاجزاً بيني وبين من يقعون تحت مسئوليتي.  قد يكون ما تعلمته من "فنون" الإدارة هو السبب، وقد تكون طبيعتي البسيطة. 

تعاملت مع جنسيات متعددة، وفي بلدان عديدة، عقدت صداقات وكونت علاقات عمل مثمرة، وأختلفت مع الكثيرين، وشاهدت ألواناً من البشر، وسأحاول في كلمات قليلة أن أنقل انطباعاتي وتجاربي، واستنتاجاتي من كل ذلك.  لكنني مع ذلك لن استطيع تجاوز تاريخ حوالي ثلاث سنوات من الأمل والألم عشتها في هذا الجزء من العالم، وفي واحدة من أكثر دول العالم غرابة اليمن.

يعتمد اليمني في تعامله معك على عدد من المعطيات، من ناحية الشكل قد لا يختلف كثيراً عن بقية العالم، فمظهرك و"قيمة" ما ترتديه هو المقياس، لكن العنصر التالي هو الأهم، وهو من أنت، والمقصود هنا ليس شخصك، بل من أي عائلة، قبيلة، منطقة.  اليمني يرى أن الأنسان هو بمحيطه وليس بشخصه، بأسرته ومكانتها في المجتمع، وليس بنفسه، بالقبيلة التي يأتي منها ومدى تأثيرها، بعلاقاته ومدى قوتها.

بمجرد أن تلقى يمني سيضع تقييمه الأول بناء على تلك المعطيات، وتأكد أن تعاملك معه سيكون أساسه ذلك وليس غيره.  ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فإنت هو أسرتك ومنطقتك وقبيلتك وعلاقاتك، ووفقاً لذلك سيكون تصنيفك.  فلو كنت مثلاً من مصر فإنت "محتال ومخادع"، ولو كنت من "لبنان" فإنت "تفتقد للشرف" ولو كنت من "تهامة" فإنت ضعيف لا قبيلة لك ولا سند، وهكذا.

تصنيفك الأول، من أنت، سيؤثر بالضرورة على أي معطيات قد تأتي فتعليمك يصبح غير ذو أهمية، ففقدانك للسند يقلل بالضرورة من قدرتك على الفعل، بل ويقلل من شأن معرفتك وخبرتك.  في الحقيقة لا يأتي العلم ثانياً بل أسلوب تعاملك وتصرفك، وهنا لا تفيدك الحكمة، بقدر ما تفيدك الجرأة، ولا ينفعك حسن التصرف بقدر ما ينفعك قدرتك على أثبات وجودك وسيطرتك.

علاقتك باليمني ستكون بالضرورة محكومة بالأمور السابقة، وسيكون تصرفه معك مبني عليها، وحتى لو استطعت "تغيير" نظرته إليك عبر تعاملك بطريقة مخالفة، سيظل عقله الباطن يضعك في خانة خاصة بك، وسيبطن ذلك ويظهر ما يسرك، لكن لا تتفاجأ، فسيأتي اليوم الذي يظهر السر، عندما تصبح خارج الحلبة. 

يبني اليمني علاقته بك على "المصلحة المطلقة"، فلا تنتظر يوماً أن تبني علاقة "انسانية" وثيقة، فالمصلحة والمصلحة فقط هي المسير لعلاقتك معه، وحالما تنتهي المصلحة يتلاشى اليمني، ويختفي.  إذا تمكنت من عقد علاقة مع يمني، فلا تأمن "شره".  سيضحك معك، سيأكل معك، ستعتقد أنه صديق "حميم"، لكن ذلك لا يعني شيئاً بالنسبة له.  إن كنت في الأعلى وهو في الأسفل، لا تعتقد أن "ضعفه" سيمنعه من المحاولة، محاولة الإضرار بك، طبعاً طالماً أن ذلك يوفر له مصلحة أو يزيد من فرصه.  أما إن كنت في الأسفل وهو في الأعلى، فأعلم أنه لن يفصح لك ما يريده منك، بل سيخبر آخر وثالث، وسيتوقع منك أن تصلك الرسالة، فلا تتفاجأ عندما "يغدر" بك يوماً، و"يصفعك".

كلما كان اليمني يرتبط بصلة قربى بآخر كلما كانت العلاقة بينهما أسوأ، وكلما كانا من منطقة واحدة كلما كانا أقرب إلى التنازع، الحسد يفصل بينهما ويجعلهما أقرب للأعداء، منه للأصدقاء.  فالغريب عند "اليمني" أقرب من القريب!  فهو موطن ثقته وحافظ اسراره.

يعمل اليمني ما يكفي، فهو لا يتقن عمله، فليس من المهم "الكمال" بل القيام بالمهمة فقط، فإتقان العمل هو الوصول للحد الادنى، وليس الحد الأعلى!- طبعاً هنا شعور عام وهناك بالطبع استثناءات كثيرة وكثيرة جداً.

ماذا عن العرب، يا ترى؟  يرى كل "عربي" بأنه "أفضل العرب"، ويؤمن في نفسه بأن بقية العرب "متخلفون".  فلو تحدثت مع مصري لعلمت أن "المصريين" في وجهة نظره هم "قمة العرب"، ولا شك أن "الأردني" يؤمن بأن "الأردنيين" هم الأفضل، وهكذا مع السعوديين والإماراتيين، وهكذا.  مع ذلك فكل العرب "يؤمنون" يقيناً أن "الخواجا" هو الأفضل، فهو صاحب الخبرة، والمعرفة، وأهل للثقة.  لكن ذلك ليس أمراً مطلقاً، فالغرب يأتي في مقدمة "قائمة المحترمين" عند العرب.

يعمل العربي كاليمني، من حيث تعامله، فهو "باطني" لن يخبرك بما يريده منك، سيقيم عملك ولكن لا تتوقع منه أن يكون صريحاً معك.  العربي يؤمن بأنه "الأذكى" لذا لا تحاول فهمه.  العربي سيتعامل معك لتحقيق مصالحه، ولكن ليس لذلك فقط، بل لأنه يؤمن بأنه الأذكي فيسعى لإستغلال "غباءك" لتحقيق مكاسب أخرى، قد لا تفهمها!

يختلف الشرقيون في تعاملهم، ولا شك أن لديهم بعض الصفات المشتركة مع اليمنيين والعرب، فعدم أيمانهم بأنفسهم ظاهر، وإن كان كل واحد منهم يعتقد "بكمال نفسه" فإنه لا يؤمن ببني جنسه، ويسعى للإضرار بهم مطلقاً.  كما أن جانبهم أيضاً لا يؤمن، فهم لن يفصحوا عما يظنونه بك، ولن يسعوا يوماً لمصلحتك، مثلما يسعون لمصلحة أنفسهم.

ينطلق الشرقيون بما فيهم العرب واليمنيين من إرث حضاري وثقافي عمره آلاف السنين.  حضارات سادت وبادت، لكن أثرها النفسي على الأنسان مازال بادياً حتى اليوم، وبغض النظر عن الأختلافات فإن هناك الكثير من الشواهد على عناصر مشتركة وطاغيه.  هؤلاء تحكمهم ثقافة مجتمعية تجعل الفرد فيهم ذائباً، غير ذي قيمة، فمهما تمكن الفرد من النجاح، فإنه لا شيء بدون أسرته وقبيلته.  ذلك الإرث لا يحكم فقط وجود الإنسان بل ونفسيته أيضاً، فالولاء للأسرة والقبيلة هو الأقوى، لذا يسعى الناس للدفاع عن هذه المكونات، ومهما كان الأمر فلا يمكن لفرد أن "يخرج" عن القبيلة، حتى ولو كانت "ظالمة"، ومهما كان الأمر لا يمكن للفرد أن يقف ضد قبيلته، بل ويتوجب على الفرد أن يعمل لخدمة هذه المكونات فهذا واجب مقدس وأمر لا يمكن أن ينجح الإنسان إلا به.  وحتى إن كان الفرد قد "تحرر" لسبب أو لآخر من "قبيلته"، فإنه يسعى بكل قوته لخلق "قبيلة" خاصة به.  تلك التي تعمل على حماية مصالحة الذاتية.

ثقافة مبنية على إرث قديم، مقدس، إرث أصبح جزءاً من الشخصية التي تكون الفرد والمجتمع.  إرث تضعف فيه قيم أساسية، قيم العدالة والصدق.  سيقول قائل إن التنافس على الموارد على مدى آلاف السنين، وحب البقاء هو السبب، وسيذكر آخرون أسباباً أخرى، لكن ما يهمنا أن ضعف تلك القيم هو المؤثر الرئيسي في مجتمعاتنا الشرقية.

صراعاتنا لا تنتهي، أحقادنا لا تنمحي، وحياتنا تظل أسيرة لماضي وحاضر، في زمن تحررت، وتتحرر فيه الإنسانية

اليمن... العراق القادم... اليمن والمستقبل المجهول


اليمن والمستقبل المجهول

مع مرور الأيام تزداد الصورة قتامة في هذا البلد الذي يسكنه قرابة 25 مليون إنسان، ويتصف بشحة الموارد الطبيعية والجفاف، فمنذ حوالي ثلاث سنوات توقعت أن يتحول اليمن ل "عراق" جديد تعصف به الفتنة الطائفية، وتمزقه النزاعات.  عندما كنت أذكر هذه التوقعات لزملائي كان الجميع يقفون في وجهي، يقولون: هذا غير ممكن فالعراق بلد غني بالموارد ويتحمل صراع طويل الأمد وبهذا العنف، كما أن للعراق تاريخ من العنف، أما اليمن فبلد فقير لا يمكن أن يتحمل مثل هذا الصراع، اليمن لديه جيش واحد واليمنيين يتصفون بالهدوء والسكون إذا ما قورنوا بالعراقيين، العراق تفتت بفعل الأحتلال، أما اليمن فلا يعاني من هذه الآفة، كما أن الظروف الأقليمية مختلفة، ولن تسمح لليمن بأن ينهار، ووووو لم يترك أصدقائي مبرراً إلا ساقوه لدحر إمكانية أن يتحول اليمن ل "عراق آخر".

اليوم تبخرت آمال أصدقائي، وللأسف تحولت اليمن ل "عراق" مصغر، وقد جاء هذا التطور بسرعة لم تكن متوقعة، وتسارع التحول بالرغم من "عدم وجود الأحتلال الامريكي"، وبالرغم من كل "القرارات الدولية" التي كان يفترض أن تمنع ذلك، وبعد ذلك كله وبالرغم من "نجاح" مؤتمر الحوار كما قيل لنا والذي فرض "هادي" نهايته ونجاحه.

يبدو أن التسوية السياسية التي عقدت في نهاية 2011 لم تحقق للآن شيئاً يذكر، فالبرغم من أنها جنبت البلاد صراعاً مسلحاً مفترضاً، إلا أنها خلقت أزمة أكثر شدة من تلك التي عانت منه البلاد عام 2011.  لقد كانت البلاد في 2011 على شفا حرب أهلية، حرب بين طرفين يمسك كل منهما بجزء من الجيش، ويمسك أحدهما بالدولة المفترضة وأدواتها، بينما تحول الآخر لنقيض يستخدم الشارع للضغط.  لو قامت حرب في ذلك العام لربما حدثت مواجهات عنيفة كانت ستودي بحياة مئات، وربما آلاف من الجنود، وقد يعاني منها المدنيون أيضاً، لكنها كانت حرب محسومة النتائج (لربما) لو تمكن أحد الطرفين من أثبات قوته وهزيمة الطرف الآخر.

التسوية السياسية قسمت "الكعكة" مؤقتاً ولم تجد حلولاً دائمة للمشكلة.  وجاء مؤتمر الحوار ليزيد الطين بلة.  بالنسبة لي فمؤتمر الحوار كان حلقة زادت الأزمة تعقيداً.  فبينما كان يفترض أن يؤدي المؤتمر لوضع حلول للإشكاليات التي تعاني منها اليمن والتي أدت لأزمة وانتفاضة 2011، جاء مؤتمر الحوار لينكأ الجروح في جسد البلد المنهك والمريض.  جاء مؤتمر الحوار ليفتح مواضع الجروح التي أندمل بعضها أو يكاد، ويفتك بما تبقى من اليمن كبلد واحد.  لا أدري من هو المهندس الرديء الذي صمم لهذا المؤتمر، لو كان بالطبع قصد إخراج البلد من ازمتها، فبدلاً من التركيز على ما يؤلم المواطن اليمني وتحديد العلاج اللازم له، وكان بالطبع يتركز في أيجاد نظام حكم عادل وقوي، وليس كما ظهر في تحول المؤتمر لساحة للمزايدات وتحقيق المكاسب الفئوية الذاتية على حساب الوطن ككل.  أدخل هذه المهندس البائس كل الأمراض والآلام، وأدخل عدد هائل من الأعضاء يمثلون في معظمهم أسباب تلك الأمراض، ادخلها جميعاً لمؤتمر الحوار، ووضع صيغة لا يرضى بها عاقل تقوم على "التوافق" في حل مختلف الإشكاليات.  ولم يكتف المهندس بذلك، بل إنه خلط أمراض الماضي مع آلام الحاضر، ومعوقات المستقبل، وأراد في الأخير أن يصل لصيغة مثالية نظرية "ترضي الكل" وتحقق بالطبع مصالح آخرين خارج اليمن.

بعد فتح الجروح، وبعث الآلام قديمها وحديثها، وبعد جمع الأطراف النقيضة، عمل المؤتمر على نقد الماضي، بل وهدمه، فإعلن أنه كان عبثاً وخطأ وجريمة، واعتذر لمن أعتذر، متجاهلاً كل القيم والمبادئ، ومجرماً كل من شارك فيه حتى لو كان مواطناً بسيطاً يرى في الماضي آمالاً تحققت وأحلاماً عاشها واقعاً.  كان التيار جارفاً لتجريد الشعب اليمني برمته من عقود عاشها، تلقى فيها معارف وتعلم قيماً ودرس تاريخاً وخلقاً، ليأتي الطوفان فيجعل كل ذلك سراباً.

توافق الجميع في المؤتمر، ليس لشيء، إلا لخوفهم من الأختلاف، وكان دور الدول الغربية والأمم المتحدة عاملاً حاسماً، فأعلن الجميع موافقتهم، فالبديل عقوبات وإجراءات-دولية- لن يتمكن أحد من تحملها، وحتى أولئك الذين امتلكوا الشجاعة ليعارضوا، جاء هادي ليزيحهم عن المشهد، وتسير العجلة لتسحق كل شيء، فمؤتمر الحوار لا بد أن ينجح، ولا بد أن ينتهي كما أراد له  المخرج.

مع كل ما تضمنته وثيقة الحوار الوطني من مبادئ سامية وقيم لا خلاف عليها، تضمنت أيضاً متناقضات ضد أبسط مبادئ العدالة والقيم الإنسانية، وشملت عبارات ملتوية مطاطة، لترضي الجميع، فجاءت كدروس في الأدب تحتمل التأويل بصياغتها الادبية الجميلة التي لا يمكن أن تمثل الواقع.

خرجت الأطراف المشاركة في مؤتمر الحوار وهي تخطط لكيفية التنصل مما تم الإتفاق عليه، خرجت لتبدأ مرحلة الحوار الحقيقي الحر الذي لا يتأثر ببنعمر أو غيره، بل تحكمه قناعات راسخة ومصالح واضحة، ليصبح الحوار ووثيقته حبراً على ورق.  وبأستثناء الرئيس هادي الذي "يصر" على أن الحوار نجح وأن تنفيذ "مخرجاته" ليس خياراً لأحد "لانه برعاية دولية"، باستثناء هادي لا يبدو أن أحد يعبأ بالحوار.

إشتد الصراع بين الأطراف وظهر على السطح مع الأيام الأخيرة للحوار، فأطراف كثيرة لا تريد أن تعقد الانتخابات في موعدها!  تلك الأطراف تعتقد أنها غير جاهزة لهذه المرحلة وانها بحاجة لمزيد من الوقت لتجهيز نفسها.  لكل طرف مصلحة في تأجيل الانتخابات وإستمرار حالة الفراغ، فالرئيس هادي نفسه المستفيد الأول، حيث يبدو أن استمراره لمرحلة قادمة غير مؤكدة، وكذلك الأمر بالنسبة للاحزاب والقوى الدينية التي رأت أنها بحاجة لمزيد من الوقت لتعزز مواقعها، وحده المؤتمر الشعبي العام بدا جاهزاً للإنتخابات، ولكن لم يكن أمامه إلا الرضوخ فالتيار أقوى من أن يقاومه.

خلال شهور تفاقمت الخلافات تدب بين شركاء انتفاضة 2011، فقد وجد الحوثيون الساحة خالية أمامهم فعملوا على التمدد، ونجحوا بشكل لم يكن أحد يتوقعه، فسيطروا على محافظات حجة والجوف، ثم أتجهوا لعمران.  عمران التي تحتضن بيت الأحمر قادة الإصلاح في جناحه القبلي.  ربما لم يتصور الأصلاحيون أن يتجرأ الحوثيون على عمران، ولكن الأدهى من ذلك أن الحوثيين وخلال أسابيع سرعان من سيطروا على عمران، وبإتفاق مع القبائل التي قررت التحالف معه، ولم تمض سوى شهور قلائل تمكن الحوثيون فيها من القضاء على آخر أمل للإصلاحيين في عمران بهزيمتهم للجيش الذي كان موالياً لهم في عمران.

لم يتمكن الإصلاحيون من الوقوف أمام الزحف الحوثي الذي وصل حتى مناطق في إب وتعز، وتحول التحالف لمواجهة مسلحة، وتقف الدولة اليمنية موقف المتفرج أحياناً والوسيط أحياناً أخر، فقد تم تحديد  الأولويات الخاصة بالدولة اليمنية في واشنطن أثناء زيارة وزير الدفاع لها في ابريل 2014 وهي محاربة "الارهاب"، أما توسع الحوثي فقد قررت الدولة أنه ليس بالأمر المهم، حتى ولو كان الحوثي يعمل على حساب الدولة، متحدياً نظامها وقوانينها، وحتى لو وصل الحوثيون إلى صنعاء، وهذا ما حدث حتى الآن.  وقد أكد المجتمع "الدولي" من خلال مبعوثه لليمن أن الحوثي لا يمثل "خطراً" على الدولة اليمنية.

محاربة "الإرهاب" وكما حدث في 2012 عندما قام الجيش بتحرير محافظة أبين من قبضة القاعدة في غمضة عين، قام الجيش هذه المرة بتطهير محافظة شبوة ومناطق أخرى وظهر الجيش بوصفه المنتصر في حربه الجديدة.  وشيئاً فشيئاً تراجعت المعارك وتم الإعلان عن السيطرة على معاقل "القاعدة"، ولكن الحرب لم تنته بعد، فكل يوم تتزايد هجمات القاعدة التي تستهدف الجيش والأمن في مناطق مختلفة، لعل أخطرها ما حدث ويحدث في حضرموت.

يستمر الصراع السياسي بين مختلف القوى السياسية في اليمن، وفجأة تتفق مصالح حزب المؤتمر الشعبي العام مع مصالح الحوثي في صراعهما ضد الإصلاح، وبينما يكتفي المؤتمر بإستخدام وسائل الحرب السياسية والأعلامية، يقوم الحوثي بإستخدام السلاح ضد الإصلاح والدولة وخلق أمر واقع كل يوم محققاً الإنتصار تلو الآخر على حليفه في "الثورة".  في نفس الوقت يبدو أن الرئيس هادي لم يرقه الشعبية المتزايدة لسلفه، الرئيس صالح، والذي تمكن من تحقيق مكاسب ناتجه عن فشل هادي نفسه في إدارة شئون البلاد، فقام الأخير بتأجيج الصراع ملحقاً الضربات لسلفه.

يقف هادي مستعيناً كما يردد دائماً بالمجتمع الدولي، يقف وحيداً بعد أن فقد دعم حزبه، وقوض تحالفه مع الإصلاح، في مواجهة  القوى السياسية الطموحه ممثلة في الحوثي الذي أصبح يمثل الوجه الآخر للسلطة في اليمن.  هادي الذي زكاه الناس في اليمن كرئيس توافقي فقد أيضاً الدعم الشعبي، فهاهو يمدد فترة ولايته دون الرجوع للناخبين، وها هو يفشل في إدارة شئون الدولة لتتفاقم معاناة الناس بشكل يومي مع إزمات متلاحقة من أزمة توفير الكهرباء إلى أزمة الوقود والإنفلات الأمني، وأخيراً عجز الدولة عن القيام بأي دور لتعزيز سلطتها.

لا يبدو أن هادي يمتلك أي مشروع، فتهديده المستمر للقوى السياسية بأنه يتمتع بالدعم الدولي يبين أنه فقد كل مقومات القوة التي لديه كرئيس (وكما أشار بعضهم أنه يعمل بالمثل القائل "غرامتي ميه وادوها")، وعجزه عن إتخاذ إجراءات قوية لحل المشاكل التي يعاني منها الناس، وسعي حكومته لزيادة اسعار المشتقات النفطية كوسيلة لتغطية العجز الناتج بدرجة رئيسية عن الفساد السياسي الذي لازم عهدة الذي أمتد حتى الآن لثلاث سنوات، كل ذلك لا يبشر بخير، فالشعب لن يستطيع تحمل المزيد، والقوى السياسية لن يروقها سعي هادي الواضح للبقاء في السلطة.

إن القوى السياسية ستسغل حالة الفراغ الذي تعيشه البلد وعدم وجود سلطة قوية تقوده نحو المستقبل، ستستغل هذه الفرصة لتعزيز مواقفها، إنتظاراً لجولة الصراع المقبلة، فالأفق غير واضح أمام مختلف القوى، والوضع الحالي أبعد ما يكون أن يخلق حلولاً.  ولكن هل يمكن للناس أن يتحملوا أكثر؟

 

الإصلاح : إلى أين؟

يتلاشى تدريجياً وبشكل متسارع وصف هذا الحزب بأنه حزب الإصلاح ذو الإتجاه الإسلامي، ويتم استخدام "الأخوان" للإشارة للجماعة التي تنتمي للحزب أو تتضامن معه، وقد بدا أن حزب الإصلاح إقترب من فهم اللعبة فقام متأخراً بنفي علاقته ب "جماعة الأخوان" لكن هذا النفي لم يكن متوافقاً في مواقفه اللاحقة خاصة فيما يتعلق بمصر وسوريا، حيث يستمر في الترويج ل "الشرعية" و"الرئيس الشرعي" في مصر، ومازال إلى حد كبير يقف مع المعارضة في سوريا ضد نظام الأسد، بالرغم من علمه بأنه بذلك يفقد حلفائه المعروفين، ولا يحقق شيئاً يذكر على المستوى السياسي.

عمل الإصلاح خلال عقود من الزمن على الوصول للسلطة، حيث ظلت السلطة حلماً تراود قادته وقواعده، وكان دائماً وعبر قياداته وتابعيه في منابر المساجد وقاعات الدروس الدينية، وحلقات التوعية، كان يشكو "فساد عقيدة الناس" وما يجلبه ذلك عليهم من "غضب الخالق عز وجل"، واستطاع إلى حد كبير جمع الناس على كره فساد الأخلاق والقيم و "بعد الإنسان عن الله"، ولكنه لم يستطع أن يحول ذلك "الكره" إلى قيم يلتزم بها الناس، فظلت المبادئ الدينية غطاءً يخفي تحته نفس القيم التي تسود المجتمع، بل ووصل الحال لدى الكثيرين إلى استخدام "الدين" وسيلة للتظليل في مجتمع محافظ.

دخل "الإصلاح" في حلف "مصلحي"  مع نظام الرئيس صالح، وذلك بعد أن أعطاه ذلك الرئيس شرعية الوجود كحزب سياسي عقب إعلان الجمهورية اليمنية، وعمل جاهداً على كسب الشارع، لكن ذلك لم يحقق له ما يصبو إليه، وظلت مشاركته في الحكم جزئية إلى أن اتته فرصة للقضاء على العدو اللدود، الحزب الإشتراكي.  تحالف الإصلاح رسمياً مع صالح إثر مساهمته الفعالة في القضاء على حركة الإنفصال الجنوبية بقيادة علي سالم البيض، ويبدو أن الإصلاح رأى في تلك فرصة للصعود على حساب المؤتمر الشعبي العام، لكن الإصلاح سرعان ما أثبت فشلة في إدارة المؤسسات التي أوكلت إليه، وأدرك أنه وقع في فخ نصبه له الرئيس صالح.  لكن ذلك الفشل لم يؤثر كثيرا على الأصلاح الذي تمكن من تحقيق نجاح في الإنتخابات في أماكن عديدة، ولكن ليس بالمستوى الذي يمكنه من السيطرة على مقاليد الأمور.

أدرك الإصلاح أنه لن يكون قادراً رغم كل شيء على هزيمة صالح وحزبه، لذا تحول الإصلاح إلى مرحلة العداء مع نظام الرئيس صالح، وربما كان إلغاء "المعاهد العلمية"، وهو نظام تعليمي ديني مواز لنظام التعليم الأساسي كان ينظر إليه الإصلاح كعنصر رئيسي في استراتيجية لبناء قاعدته الخاصة، كان ذلك الإلغاء نقطة التحول في علاقة الرئيس صالح بالإصلاح، فبدأ الإصلاح باستراتيجية جديدة تعتمد على محاولة الوصول للقمة مباشرة.

استمر الإصلاح في تقوية العناصر التابعة له والمتعاطفة معه في مفاصل الدولة المختلفة، وسعى إلى إدخال ما يستطيع من عناصر في الخدمة العامة، وفي نفس الوقت مارس عملية منظمة لمهاجمة النظام القائم وتقويضه من الداخل، وعمل على التحالف من أجل إضعافه وإفشاله، وقد استخدم لأجل ذلك ما تسنى له من أدوات.

لم يجد الإصلاح حرجاً في التحالف مع القوى المعارضة لنظام صالح أياً كان أتجاهها، فتحالف مع القوى اليسارية التي أدرك إن لها وزناً على المستوى الشعبي، وقد نجح هذا التحالف في صنع أول مرشح منافس في إنتخابات الرئاسة اليمنية، لكن المرشح لم يستطع تحقيق الفوز على صالح، ويبدو أنه على إثر ذلك أدرك  الإصلاح إستحالة الوصول للسلطة عبر الانتخابات، لذا سعى للتخلص من نظام الرئيس صالح، وبدأ مع حلفائه حملة منظمة وممنهجة لتقويض النظام وفضح فساده، بل وإفشاله وإظهار فشله والتحريض عليه على المستوى المحلي والدولي.

إستطاع الإصلاح خلق حالة من التذمر والغضب لدى المواطن اليمني، ساعده على ذلك عدة عوامل منها بالطبع الأخطاء التي كان يرتكبها النظام وانتشار الفساد وتضاؤل قدرة الحكومة على التعامل مع متطلبات المواطن وتدهور الظروف المعيشية في ظل ظروف إقليمية ودولية معقدة ساهمت في خلق جماعات ونزاعات في أماكن عدة، لكن تلك الظروف لم تكن كافية لتغيير الأمر الواقع.

تمكن حزب الإصلاح من إلتقاط الفرصة التاريخية إثر قيام ثورتين في تونس ومصر، وعمل على استنساخها في اليمن، فوجه كل قواه لصنع أحداث مماثة في صنعاء وأماكن أخرى، ونظراً لتفوقه التنظيمي الكبير فسرعان ما تمكن من خلق حركة سيطر عليها بالكامل، وتمكنت الحركة خلال أسابيع من الحصول على دعم شعبي واسع، لكن ذلك لم يكن كافياً لإخراج نظام الرئيس صالح من الحكم، لذا لجأ بالحيلة لإستغلال أحداث 18 مارس 2011 او ما يعرف بجمعة الكرامة، وانتقل الموالون له فوراً من عباءة الرئيس صالح ليصبحوا "ثواراً"، وبذلك حقق نوعاً من التوازن العسكري، غير أن ذلك لم يحقق أيضاً مبتغى الإصلاح في رحيل صالح عن الحكم، فجاءت محاولة الأغتيال، وبالرغم من فشلها، إلا أنها في النهاية كانت سبباً في تخلي صالح عن السلطة، وكان الإصلاح هو المستفيد الأكبر الذي حصل على نصيب الأسد في حكومة ما يسمى بالوفاق الوطني، على أساس المشاركة في السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي العام- حزب الرئيس صالح.

بعد أكثر من ثلاث سنوات من تولي الإصلاح لجزء من الحكومة ظهر جلياً أن الحزب، وللمرة الثانية، ارتكب خطأ فادحاً، فها هم ممثليه في الحكومة يعجزون عن تحقيق أي تقدم في عملهم، بل ويفشلون حتى في الاحتفاظ بالأوضاع المتردية كما هي، فوزير المالية يصل بعد ثلاث سنوات لنتيجة مفادها أن رفع اسعار المشتقاف النفطية أمر حتمي وضروري، وذلك على ضوء إفلاس المالية العامة، وعجز وزارته عن سداد فاتورة المشتقات النفطية مما أدخل البلاد في أزمة وقود حادة.  في نفس الوقت ظهر أداء وزير الكهرباء باهتاً، فبعد ثلاث سنوات زادت إطفاءات الكهرباء، وتضاعفت معاناة الناس بشكل كبير، وبمثل ذلك الأداء السيء ظهر وزير التخطيط الذي لم يتمكن بعد سنوات ثلاث من استغلال موارد مالية مخصصة لليمن من قبل المانحين ولم يتمكن من تحسين أداء وزارته في هذا الجانب، وكذلك فشل وزير الداخلية الذي دخلت البلاد في عهده في سلسلة من الصراعات فقد فيه الأمن، وفقدت الدولة قدرتها على إدارة الأمن.  وبنفس الأداء المتواضع ظهرت وزارة التربية والتعليم والذي ركز الإصلاح فيها جهوده لإيمانه أن المستقبل هو الأهم.

هكذا كرر الإصلاح تجربة تحالفه مع المؤتمر الشعبي العام العام عقب حرب الانفصال 1994، وفشل بنفس الطريقة، ليس فقط في إدارة الخدمات الرئيسية التي تمس حياة المواطن اليومية، بل وفي كسب ثقة الناس من خلال قيام ممثليه في الحكومة بالعمل على تعيين الكوادر الموالية له، وإقصاء الآخرين مما خلق حالة من التذمر على جميع المستويات.  بدا الإنسحاب من الحكومة خياراً للإصلاح، لكنه ربما بدا أكثر من أن يقوم الإصلاح بالتفكير به، فبينما كانت مشاركة الإصلاح في الحكومة عقب حرب 1994 كان "عطية من صالح"، وجد الإصلاح أن مشاركته في حكومة باسندوة حق ناتج عن "ثورة" وبالتالي يبدو أنه لم يفكر حتى مجرد التفكير في التخلي عنه.

سخط الناس على أداء الإصلاح ووزراءه الذين أثبتوا فشلهم، وتحول سخط الناس لكره للإصلاح وسياساته، خاصة بعد أن فشل الإصلاح في قراءة الشارع ومطالبه، فوزارات الإصلاح تمس الناس بدرجة كبيرة، حتى وزارة النفط التي على رأسها وزير من المؤتمر الشعبي العام ظهر أن سبب عجزها عن توفير المشتقات النفطية هو عدم قيام وزارة المالية بواجبها، لتصب كل الظروف في مصلحة المؤتمر.

عوامل عديدة أثرت على سمعة الإصلاح لدى الناس، فالبرغم من أن الحزب يستخدم خطاباً دينياً قريباً منهم، إلا أن المعطيات كانت دائماً في غير مصلحته.  فقد تحالف الإصلاح مع الإشتراكي، الذي حاربه لسنوات، بل واعتبر فكره كفراً، ولم تمر سنوات إلا والإصلاح يتحالف مع الحوثي، تلك الجماعة التي يختلف معها عقائدياً ويعتبرها خارجة عن الدين الإسلامي، وتدريجياً قوض الحزب عدداً من المبادئ الرئيسية التي كان يفترض أن تحكم توجهه، فتحول فجأة إلى حزب دينه ومبادئه المصلحة لا غير.

تمكن الإصلاح من تأجيل الإنتخابات التي كان يتفرض أن تتم في 2014، ولعل الدافع الرئيسي لسعيه لتأجيل الإنتخابات ما رأه من توجه الناس نحو عدوه اللدود "المؤتمر الشعبي العام"، وذلك على أثر تدهور الأوضاع في شتى مناحي الحياة في اليمن، وعجز الحكومة عن القيام بشيء، خاصة تدهور الوضع الأمني.  لقد جرى تأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى، ويبدو أن الإصلاح كان يراهن على تحقيق بعض التقدم خلال تلك الفترة، لكن الأمور زادت تعقيداً، فقد تمكن الحوثي- الذي تحول مجدداً لعدو للإصلاح، تمكن من السيطرة على دماج وطرد سكانها خلال أسابيع، وخلال سنوات ثلاث تمكن الحوثي من السيطرة على المناطق الممتدة من صعدة وحتى عمران، وألحق هزيمة نكراء بالأصلاح في عقر دار قيادات الإصلاح وهي محافظة عمران، وسيطر على معاقل كثيرة كان يعقتد أنها تتبع الإصلاح، خاصة معاقل الشيخ الأحمر.

لقد تحول الحوثي للعنة على الإصلاح، فتمكنه من التوسع وبشكل سريع، جاء على حساب الإصلاح، وقد أربك الإصلاح على إثر خسارة جناحه القبلي المعركة.  وحتى أولئك الذين كانوا يتعاطفون مع الإصلاح رأوا أن سياسات الإصلاح هي التي مكنت الحوثي من التوسع، بدءاً من تحالف "الثورة" وأنتهاء بالإعتذار للحوثي في مؤتمر الحوار.

لم يعد لدى الإصلاح ما يقدمه للناس.  لقد فشلت كل مشاريعه على مدى السنوات الماضية، فوصوله للحكم جاء منقوصاً، وعجز وزرائه عن تقديم شيء يفيد الناس، وفشل في إيقاف زحف الحوثي وسيطرته ، وجاءت الأحداث الأقليمية وإتجاه الدول العربية لمحاربة الإسلاميين لتزيد من قناعة الشارع اليمني بأن "عهد الأخوان" لا بد أن ينتهي- في اليمن ايضاً. 

مازال الإصلاح يتصرف كوريث "للثورة"، ويقوم أداؤه على أساس معاداة "علي عبدالله صالح"، ويعمل ليل نهار سواء علناً أو سراً لمحاربة صالح وحزبه، في الوقت الذي يحقق الحوثي مكاسب على الأرض، ويبدو من قوة لدى الأصلاح، وسيطرته الواضحة على الرئيس هادي ستمكنه في النهاية من تكسير عظام المؤتمر، والسؤال الذي يضع نفسه، ما هي مصلحة الأصلاح في انتهاء المؤتمر؟  من غير المتوقع أن يكون الأصلاح هو وريث المؤتمر، بل من المرجح والحتمي أن يحصد الحوثي نتيجة هذا الصراع...

إن الإصلاح كفكر وسياسة مطلوب منه أن يعيد تقييم تجربته والأستفادة من أخطائه، تجربة الإصلاح تختلف عن تجارب الأخوان في مصر وسورية وليبيا، ولعلها تشبه تونس.  في اليمن كان الحل السياسي هو النتيجة لأحداث 2011، ولكن هل استغل الإصلاح ما بيده من اوراق؟ وهل كانت قراراته سليمه، ولماذا فشل في كسب ثقة الناس؟، ما الذي يتوقعه الإصلاح عند إجراء الانتخابات القادمة حيث كان السبب المباشر لصعود الحوثي وكانت "ثورته" وبالاً عن الناس في جميع مناحي الحياة.  ما علاقته بالجماعات المسلحة خاصة تنظيم القاعدة، وهل يمكنه التبروء من مثل هكذا علاقه؟.  كيف يمكن للحزب أن يعيد كسب ثقة الناس به؟  ما هو الذي عليه القيام به في هذه المرحلة التي إنهار فيها الأخوان في مصر، وهل يجب أن ينتظر لعب دور الضحية؟، مادام الإصلاح قد ركز على المصلحة في علاقاته بعيداً عن "المبادئ" فهل كانت قراراته دوماً صائبة؟، وهل يعيد حساباته ويعيد تحديد حلفائه، أم يسير في طريق ستوصله في النهاية إلى الهاوية؟.