الأحد، 2 نوفمبر 2014

رحلة عيون سردد (5): تأملات أخيرة


 

رحلة عيون سردد (5): تأملات

أيام قلائل من السفر ومشقته، أيام قلائل من الخروج عن المألوف، أيام من عشق الطبيعة وتحديها، أيام من العمر قلما تتكرر، وفي الوضع الذي نعيش فيه رأى الكثيرون أن ما قمنا به هو ضرب من الجنون.  يقولون ألا تعلمون ما يحدث في البلاد، ألا تعون أنكم تخاطرون بحياتكم بخروجكم في وقت يرفع كل يمني سلاحة منتظراً أن يدافع عن نفسه، إن لم يكن في سبيل تحقيق مكاسب مزعومة، الا تدرون ألا نظام ولا دولة ستحميكم، ألم يصل إليكم التوحش الذي وصل إليه الناس في المدينة، فما بالكم في الأرياف الأكثر فقراً، ألا تخشون هذا كله؟

لا أحد منا ينكر أن كل تلك الوساوس قد دارت بخلد كل واحد فينا، حتى كادت في لحظات أن تفتك بعزيمتنا، ولكن يبدو أن اتصالنا ببعضنا كمجموعة قد غلب تلك المخاوف، فوجدنا أنفسنا على رغم كل شيء نتجه في وقت مبكر من الجمعة إلى نقطة اللقاء.  لم نكن على أتم الاستعداد كما يجب أن نكون، لعل كل منا كان يتوقع ألا تتحقق تلك الرحلة حتى وجد نفسه، مثلي، فجأة في طريقه إليها.

خرجنا عن المألوف في وقت يؤثر أغلبية الناس البقاء في بيوتهم.  أخذتنا المغامرة في أتون المخاطرة بكل شيء، ولحسن الحظ فقط، وبتوفيق من الله أكملنا رحلتنا دونما أية خسائر.  مخاطر الطريق، ومخاطر النوم في العراء دون أي تجهيز، مخاطر مواجهة الوحوش ومعروف وجودها في وادي سردد، ومخاطر السير في وسط المياه الجارية والنزول فيها، ومخاطر مواجهة أي معتدي، جميعها بدت سهلة بسيطة ونحن ننتقل ضمن وادي سردد الذي كان بمثابة طريق مجهول لكنه شيق، وكأننا نلعب إحدى العاب الفيديو الممتعة....

أصبحت الرحلة سريعاً كالحلم الجميل، ولا ابالغ أننا كلما انتقلنا من مكان لآخر، وكلما خطونا خطوة للأمام نحس بالمتعة فيها والشوق لها، ونفتقد المكان الذي غادرناه.  قلما يراودك إحساس كهذا....

بداية الرحلة إمتلأت ليس بحديث الهموم ومعاناته فحسب، كانت بداية وضعتنا في الواقع المر، ونهايتها كانت مثل البداية لم نستطع أن نتجنب فيها المرور بنقاط المسلحين الكثيرة جداً، ولم نستطع إلا الحديث عن كل ذلك، وبدت الرحلة في الوسط كمن يخرج عن إطار المألوف ليعيش حلماً قصيراً، لكنه حلم صنعناه بأيدينا، قررنا فيه أن نحول كل شيء إلى فكاهة ومتعة، نتذكر أغاني الحارثي وأيوب، كما نتذكر "حبيبت محمد جمال" و "الدكان" وووو أشياء كثيرة .....، حلم سنظل نتذكره ونشتاق إليه لوقت طويل، وهذا عزاؤنا في هذا الزمن.
 

رحلة عيون سردد (4): البداية


رحلة عيون سردد (4): البداية

لم يرحل الليل كما نعتاده، بل تحولت السماء من اللون الأزرق الداكن المرصع باللالئ تدريجياً للون الرمادي، وبدأت المساحات السوداء من الجبال تفصح عن مزيد من التفاصيل.  كان الفجر يشق طريقه، بينما كنا مازلنا نغط في أحلام الليل.  بقوة شق الضوء طريقه ليفصح عن تفاصيل جديدة تملأ المكان، وكأننا نراها لأول مرة.

سرعان ما جمعنا أمتعتنا على ظهورنا وبعد وداع قصير أصر فيه حيدرة أن يلعب دور الأعرابي الذي لم نجده إلا على صفحات الكتب، غادرنا المكان بعد أن اعطانا ما يمكننا من التواصل معه، وتمنى لنا رحلة موفقة.  كان النشاط يملأؤنا بالرغم من أنه اليوم الثالث من مشقة السفر.  سرنا كالعادة وسط المياه وكان دفئها يمتعنا في هذا الوقت المبكر.  بعد حوالي ساعة وجدنا مساحة من الرمال الساحرة، كانت تدعونا لأخذ قسط من الراحة وتناول الفطور، ولم نستطع إلا تلبية دعوتها.  ومثل كل مكان مررنا به لم نستطع مبارحته إلا بصعوبة فقد كان مرحباً ومضيافاً ككل شيء.

سرنا بعدها جادين ونحن نحس بالشوق للوصول للحمام، سرنا مسافات طويلة وجدنا في طريقنا بضع أشخاص وكنا نسأل عن المكان وهم يسألون عن من أين جئنا وإلى أين سنذهب.  كان هناك قرية واحدة علمنا أن اسمها قرية شيعة وقد مررنا بتفرعات للوادي الأول باب مخد يفصل بين الحيمة والمحويت ثم باب دايان بين المحويت وحراز والحيمة وقرية عصمان قبل الحمام.

وصلنا أخيراً للحمام!  لم يكن سوى غرفتين صغيرتين، علمنا فيما بعد أنهما دكان ومكان مهجور، فموسم الحمام لم يبدأ بعد، والناس الذين وجدناهم لم يكونوا سوى مجموعة واحدة جاءت من الحيمة في مغامرة للاستمتاع بالحمام.  شعرنا بنوع من خيبة الأمل بالرغم من وصولنا لمقصدنا، فيبدو ألا مياه ساخنة كما سمعنا وبدت الرمال على جانب السائلة باردة. 

سرعان ما أخذ بعضنا يلهو بالرمال ويجدها فرصة لتغطية نفسه بها.  كان هناك عدد من الناس ولديهم أدوات للحفر فساعدوا في تغطينا بالرمال، وهم يتساءلون في جدوى ذلك، وأي فائدة ترجى منه، ولم يلبث عدد منهم أن غطى نفسه بالرمال بعد أن ساعدنا على ذلك.

لحسن الحظ أن المجموعة التي وصلنا وفي في المنطقة قد سبقتنا إليها، فقد قامت بتجهيز مغطس صغير في وسط السائلة باستخدام ادوات أحضرتها معها، ولم يكن لدينا أدوات يمكن أن نتسخدمها لحفر بقعة أخرى.  إذن فقد اكتشفنا أن هناك مياه ساخنة فعلاً، وبأن تلك الحفرة مليئة بها. 

سرنا على المياه الباردة ولم نكن نعي أن مياه المغطس ستكون بتلك الحرارة العالية، كانت مفاجأة فعلاً، اربكتنا، فسارع بعضنا بالصياح والهرب بعد أن احس بحرارة المياه.  لقد كان شيئاً استثنائياً، ها هي مياه الحفرة الشديدة الحرارة تقع في طرف المياه الباردة التي تتدفق من أعلى الوادي.  تستخدم المياه البادرة المتدفقة في تعديل حرارة المياه داخل المغطس، عبر ساقية صغيرة.

بحثنا عن مصدر المياه الحارة فلم نجد إلا فقاعات تأتي من قاع المغطس.  تمكن البعض منا من الدخول للمياه ولم نكن نعي في بداية الأمر أن الحرارة ناتجة عن سخونة الاجحار وليس عن سخونة المياه نفسها.  استمتعنا كثيراً بالمياه وكان الانتقال ما بين المغطس الساخن ومياه الوادي الباردة الغزيرة والمتدفقة تجربة فريدة وممتعة.  ما زاد من حيرتنا أننا اكتشفنا أن اسفل مياه الوادي المتدفقة مياه ساخنة ما أن تضع أصابعك بين الرمال والأحجار حتى تلسعك حرارتها.

لقد كان الحمام بمياهه الباردة المتدفقة، ومياهه الحارة الآتية من الأسفل تجربة تستحق أن نبقى للأستمتاع بها، لكننا الوقت كان يداهمنا، ولم نجد بداً من حزم أمتعتنا مجدداً في رحلة العودة التي كنا نعلم أنها ستأخذ عدة ساعات.  دعانا  "اصحاب الحيمة" إلى التأني وإلى تناول الغداء معهم، ولكننا لم نتمكن الحصول على سيارة لتقلنا في رحلة العودة، لذا آثارنا حث الخطى عائدين لوادي دايه الذي يفترض أن يوصلنا لمنطقة بني منصور على طريق الحديدة صنعاء.

أكثر من أربع ساعات قصيناها ونحن نسير عكس اتجاه الوادي والمياه، استمر مسيرنا في وادي دايه ونحن نأمل الوصول إلى وادي يباس، وهو مثل اسمه لا توجد به مياه، وكان مجرد ذكر أسمه يشعرنا بالتعب.  بدأنا نفكر في تناول الغداء، أو أخذ أستراحة، وبينما نحن نمر في وسط المياه التي كانت أقل غزارة، وحيث اكتسى جانبيها بألوان خضراء بهيجة من الطحالب، يتبعها على الجانبين اشجار الحلال – المعروفة عند البعض باليرع، ثم مزارع بعضها تطل عليه قرى صغيرة، بدأنا نلتقي بأناس بدا عليها سحنة تهامية أكثر.

شاهدنا أول سيارة، وكانت مفاجأة لنا، كانت تدخل من السائلة بين أشجار الحلال وإلى المزارع التي كانت باللون البني الداكن جاهزة للبذور.  واصلنا مسيرنا ونحن نأمل أن نجد سيارة تسير بإتجاه سيرنا، وبينما تمنى أحد الأصدقاء أن تعود هذه السيارة وتقلنا، وحمله خياله لتأليف قصة ما سيواجهه صاحب السيارة من زوجته التي ستطلب منه الحلوى وبأنه سيضطر للخروج مجدداً وسيقلنا إلى مقصدنا، وسيوفر قيمة الحلوى ومصاريف الوقود! 

لم تمر دقائق إلا وصوت السيارة يأتي من خلفنا.  لقد صدق حدس صاحبنا، وبإشارة منا توقف صاحب السيارة لنعلو مؤخرتها ونحن نشعر بشيء من الغبطة.  كنا قد طلبنا منه أن يوصلنا لوادي "يباس" وهو كما قيل لنا الطريق الذي سيوصلنا إلى بني منصور.  ونحن على ظهر السيارة ثم الحديث مع صاحب السيارة الذي وافق على أن يقلنا لمقصدنا، وقد أحسنا صنعاً بذلك حيث أخذت السيارة أكثر من ساعة ونصف قبل أن تصل.

ترجلنا السيارة وكان صاحبها قد تواصل مع صديق له ليقلنا إلى صنعاء.  تفاجأنا من تصرفه، ولكننا قبلنا ذلك بعد أن أشعرناه بأننا بحاجة للراحة وتناول الغداء، ووافق على ذلك.  في نقطة وصولنا كان هناك جامع رأينا أن نؤدي فيه الصلاة، وسرعان ما أعادنا الجامع إلى هموم المدينة، فما أن ولجنا الجامع حتى وجدنا "صرخة الحوثي" تكاد تغطي على كل شيء داخل الجامع.

في الطريق وكالعادة سرعان من أخذت السياسة طريقها لحديثنا.  علمنا منه أن أبناء الحيمة قد أتفقوا مع الحوثي على عدم دخول بلادهم، على أن يؤمنوا له الطريق، أما أبناء بني مطر فقد سلموا للحوثي بلادهم وأقام فيها رجاله ونقاطه.  كان سائق السيارة ساخطاً من تواطؤ قوات الجيش مع الحوثيين وقيامها بمساعدتهم. 

أنتهت رحلتنا سريعاً في عَصِر عند حلول المغرب، وكانت البداية.